وسط حالة أقرب للشغب أسقط البرلمان البريطاني (مجلس العموم) رئيسة الوزراء ليز تراس ومن قبلها في المدى القريب أسقط بشكل درامي كل من تريزا ماي، وبوريس جونسون، غير أن سقوط تراس كان الأكثر درامية نظرا لقصر مدتها في السلطة، إذ أعلنت استقالتها بعد 45 يوما فقط. ورغم أنها ومع تعالي الأصوات داخل حزبها حزب المحافظين الحاكم للتخلص منها بسبب تراجع شعبية الحزب إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ بريطانيا والاضطراب الذي تسببت به في سوق المال، إلا أنها أعلنت تحديها لهذه الأصوات تحت قبة البرلمان قبل وقت قصير من استسلامها إعلان استقالتها. لعل الصخب والشغب الذي يثور باستمرار في البرلمان البريطاني يذكر الكثيرين بمسرحية مدرسة المشاغبين الكوميدية التي عرضت في 1971. وهي بالمناسبة مقتبسة عن الفيلم البريطاني (إلى المعلم مع الحب). وحفلت المسرحية بسخرية لاذعة من رموز السلطة المدرسية التي تتمثل في ناظر المدرسة، بينما يُمعن أعضاء البرلمان البريطاني في السخرية من رئيس الوزراء إذا اظهر ضعفا في أدائه. ويقول المدافعون عن المسرحية أنها كانت انعكاساً لفترة انهارت فيها القيم التقليدية للمجتمع المصري والعربي بشكل عام، وهي فترة ما بعد النكسة وما بعد الانفتاح حيث تحولت قيم كثيرة مثارا للسخرية. ولعل بروز حالة السخرية في البرلمان البريطاني جاءت كذلك بعد فترة عصيبة مرت بها بريطانيا ولا زالت منذ مخاض خروجها من الاتحاد الأوروبي، مرورا بجائحة كورونا وانتهاءً بالحرب الحالية في أوكرانيا. في يونيو 2016 أعلن رئيس الوزراء ديفيد كاميرون أنه سيقدم استقالته من منصبه بعد 3 أشهر بعد صدور نتيجة استفتاء بقاء البلاد في الاتحاد الأوروبي والتي أظهرت موافقة 51.9% لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي وقال إنه لن يشرف على عملية خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي وسيتركها لغيره. وفي ديسمبر 2018، قدم 48 نائباً محافظاً رسائل عدم الثقة ضد رئيسة الوزراء تريزا ماي لرئيس (لجنة 1922) مما استدعى إجراء تصويت بعدم الثقة في قيادتها للحزب. وصوّت 200 من أعضاء الحزب الذي تترأسه لصالحها، بينما صوت 117 نائيا من حزبها ضدها. فضلا عن أصوات نواب المعارضة. في سبتمبر الماضي أيضا أعلن رئيس الوزراء بوريس جونسون استقالته. وجاءت استقالة جونسون بعد أيام من الدراما السياسية والمعارك العلنية والخفية بينه وبين خصومه داخل حزبه، إلى أن وصل إلى اللحظة التي بقي فيها وحيدا في ساحة المعركة يواجه مصيره بمفرده، فكان أمامه خياران، إما الاستمرار في القتال وبالتالي يعزله الحزب خلال أيام قليلة أو إعلان استقالته من زعامة الحزب ليحافظ على البقية الباقية لديه من شعبية وطاقة للمعارك السياسية المقبلة. وجاءت استقالة جونسون، بعد أشهر من فضيحة انتهاكه لقواعد مكافحة وباء كورونا في المملكة المتحدة، والتي عرفت باسم "بارتي غيت" واستضافته حفلًا في مقر الحكومة بلندن، وخلف ذلك غضبا واسعا واتهامه بالكذب. كما واجه اتهامات بأساء استخدام مكتبه بمكافأة أصدقائه وعقد صفقات مع المتبرعين. بعد شهر ونصف من المكابدة والعنت في رئاسة الحكومة، أعلنت ليز تراس استقالتها، وقالت إنها كانت تظن أنها الشخصية المناسبة للمنصب، وأضافت أنها تولت المسؤولية، في وقت أزمة عالمية، وتراجع اقتصادي وعدم استقرار على المستوى الدولي. واعترفت أنها لن تتمكن من تنفيذ الوعود التي قدمتها عند انتخابها من قبل نواب الحزب، في البرلمان. إن التجربة المريرة لتراس تثبت أن السلطة بمعناها القيادي والسياسي لها مواصفات لا تتوفر عادة للمفكر أو المثقف أو الفني، وأعظم فليسوف قد يعجز عن إدارة قرية صغيرة. ويبدو أن التكامل بين السياسي وفريق من الخبراء والباحثين أمر مفقود حتى في أعرق الديمقراطيات. فالسياسي بالرغم من أن لديه الأسباب والظروف والمواهب التي تجعله زعيما، او قائدا، فإنه يحتاج لفريق لديه الاسباب والمواهب، لكي يفكر في الامور التي تعرض على طاولته، ويتأملها بعيدا عن ملاحقة الاحداث. وقديما، كانت مهمة القيادة أو الحكم أبسط مما هي عليه الآن. فقد كانت الدول قليلة ومعزولة نسبيا. لقد كانت الامور التي تتدخل فيها الدولة قليلة، قد لا تتعدى الدفاع عن البلد وصيانة الأمن وكفالة القانون فيه. ولكن، مع التقدم الهائل والسريع في كافة مجالات الحياة، صارت الأمور المطروحة على الحاكم كثيرة ومتشعبة ومعقدة لأبعد الحدود. فالسلطة السياسية لم يكن ممكنا لها أن تتخذ القرارات السليمة في كل المجالات، بسبب تشعبها وتعقدها، وحاجتها الى تخصـصـات كـثـيـرة، وخلفيات متنوعة. وقبل عقدين من الزمان أثيرت في المملكة المتحدة قضية علاقة الفكر والخبرة بالسياسة؛ فهناك من كان يتحدث عن قضية تناقص دور البرلمان، إذ أن كثيرا من الأمور العامة التي تعرض عليه معقدة لدرجة لا يستطيع النائب أن يحيط بها كلها تماما، في حين أن يأتي لمناقشة الموضوع المطروح مزودا بـآراء عـشـرات الخبراء، واحيانا مصحوبا بهم، الأمر الذي يجعل الغلبة في الاقناع غالبا للسلطة التنفيذية، والعكس قد يكون صحيحا كما في حالة تراس. وإلا فلن يبت طرفا في مسألة ما أو يحكم فيها إلا بالعموميات فقط. فلو أن أي رئيس الوزراء أحاط نفسه بخبراء من أعلى المستويات من الجامعات أو من الحياة العامة، كالكتاب الصحفيين ومؤلفي الكتب وذوي الافكار المتميزة، فقد يجعل الوزراء يفقدون الكثير من سلطاتهم لصالح رئيس الوزراء المزود بهؤلاء الخبراء، رغم انه ليست لهم صفة تمثيلية سياسية. في الولايات المتحدة ترصد ميزانية سنوية ضخمة لعضو الكونجرس، يكوّن بها جهازا فنيا مساعدا له، هم في الغالب من الخبراء المخضرمين والشباب، يعدون لـه الدراسات والمواقف المختلفة. والشباب من ذلك الفريق هم في الغالب سياسيون يبدأ كثير منهم حياته السياسية من ذلك المكان حياتهم السياسية. فحكومة الرئيس الشهير جون كنيدي كانوا يسمونها "حكومة هارفارد" لأن أغلب من أتى بهم من مستشارين ومساعدين كانوا من جامعة هارفارد.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق October, 21 2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة