قبل نحو عقدين من الزمان وقناة الجزيرة تبدي جسارة غير مسبوقة في تغطية مناطق النزاعات وبث التقارير الصحفية المهنية؛ تابع العالم بدهشة قصف الولايات المتحدة الأمريكية مكاتب قناة الجزيرة في أفغانستان، ولاحقا في العراق، حيث استشهد مراسلها طارق أيوب. وكان للرئيس الأمريكي الأسبق بوش الإبن موقف مشهود من القناة؛ فقد نشرت صحيفة الديلي ميرور البريطانية في 22 نوفمبر 2005 موضوعاً حصرياً على غلافها تقول فيه "إن الرئيس بوش خطط لتفجير مبنى قناة الجزيرة في بلد عربي صديق". حسبما كشفت عنه مذكرة سرية جداً صادرة عن 10 داوننغ ستريت. وأوردت الصحيفة تقول: "كشف بوش عن فكرته في ضرب المدنيين في قناة الجزيرة أثناء قمة عُقدت وجهاً لوجه في البيت الأبيض مع توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق في يوم 16 أبريل من العام 2004م. يشار إلى أن البيت الأبيض الأمريكي نفى الخبر بعبارات تحاشت بعناية الادعاء بأن الوثيقة التي نشرتها الديلي ميرور مزورة واكتفى بالقول: "لن نمنح خبراً بمثل هذه الغرابة شرف الرد عليه". كما رفضت رئاسة الوزراء البريطانية في بادئ الأمر أن تُعلق، ثم هددت بمقاضاة رؤساء تحرير الصحف الذين نشروا تفاصيل عن المناقشة. وقال كاتب في صحيفة نيويورك صن الأمريكية إن "عُنف رد الحكومة البريطانية وحده يعني أن هذه المسألة أخذت مأخذ الجّد سواء في لندن أم في واشنطن. ومن غير المعتاد، بل ربما لم يحدث من قبل، أن تقوم بترويع رؤساء تحرير بهذه الطريقة"
منذ ذلك الحين تحولت قناة الجزيرة ومنسوبوها لأهداف عسكرية، ولا عزاء للقانون الدولي الإنساني بينما غدت قيم حرية الإعلام أناشيد تعزف فلا تطرب، ومساحيق تجميل لا تزيل القبح. كانت الصحفية شيرين أبو عاقلة مراسلة قناة الجزيرة في فلسطين المحتلة آخر الأهداف العسكرية التي استهدفتها قوات الاحتلال الإسرائيلي بجرأة كبيرة. كانت شيرين وفريقها على وشك بث تقرير عن اقتحام قوات الاحتلال لمخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة، والذي تحول بشكل دراماتيكي إلى تقرير عن اغتيالها شخصيا، فقد انطلقت الرصاصات الغادرة لاغتيال الحقيقة ووثقت كاميرا الجزيرة لحظات عصيبة ومؤثرة ونقلت استغاثات مبحوحة لإنقاذ شيرين التي سقطت على وجهها مضرجة بدمائها.
مثّل حدث الاغتيال المتعمد للصحفية الجسورة الوجه الحقيقي للاحتلال الصهيوني وكذلك وجه الذين يقفون داعمين للكيان الغاصب، من الحكومات والدول لا سيما تلك التي تشاركه هذه الأفعال، فما إسرائيل إلا راقص في جوقة دُفٍ ظل يضربه ربُّ البيت. لقد دفعت شيرين بأريحية ثمن نشر الحقيقة كما ظل يدفعها زملاؤها الصحفيون عبر الحقب. ولعل أقل وصف لما حدث، ذلك الوصف الذي أعلنته قناة الجزيرة في بيانها الرسمي، بأنه جريمة مفجعة تخرق الأعراف والقوانين الدولية. ولعل هذه الجريمة كانت تتويجا لسلسلة طويلة من العسف والمضايقات التي ظلت تتعرض لها أطقم قناة الجزيرة في فلسطين؛ لقد تحدثت شيرين في مقابلة سابقة عن أسباب استهداف جيش الاحتلال الإسرائيلي لها ولزملائها، وذكرت شيرين أن الاحتلال يعتبر مساحات تحركها وزملائها للتغطية الصحفية ونقل الحقيقة، هي خرق أمني تمهيدا لاستهدافهم بالقتل، وهو ما حدث معها فعلا. الصمت العالمي بل التواطء جعل إسرائيل ترتكب 625 انتهاكا بحق الصحفيين في فلسطين المحتلة خلال العام الماضي فقط، وشهد العالم قيامها خلال اعتدائها الأخير على قطاع غزة بتدمير 59 مؤسسة إعلامية. إن حقيقة تحول الصحفيين ومؤسساتهم إلى أهداف عسكرية يتطلب منهم إعادة التموضع وتحسس مواضع أقدامهم والتعاطي بحذر مع الوضع الجديد المفروض عليهم. ولا سبيل إلى حسن النية واعتبار ارتداء الستراة التي تحدد هويتهم الصحفية أمرا كافيا لجلب الحماية لهم. لقد استطاعت قناة الجزيرة ومنذ نعومة أظافرها أن تخترق الجدار الإعلامي الضخم الذي بناه الغرب بإمكانياته الخارقة. ودافعها أنها على علم تام بأنها تعمل في منطقة ساخنة من مناطق العالم الملتهبة بالأحداث، وأثبتت قدرتها على بناء علاقات مع كل المناطق التي تعمل فيها بطريقة ذكية وغير تقليدية، كما هو شأن نظيراتها. بعد الحرب الأمريكية الأولى على أفغانستان جاءت الحرب الأمريكية على العراق، حيث واجهت قناة الجزيرة حملة عنيفة من الانتقادات الغربية على وجه الخصوص، فقد وصف الرئيس الأمريكي الأسبق بوش الإبن عرض الجزيرة لصور جنود أمريكيين أسرى بأنه غير مسؤول، فيما اعتبر وزير دفاعه بث الصور أمرا مثيرا للغضب. وفي تلك الأيام ذكر معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى أن لقناة الجزيرة تأثيراً بالغاً في صياغة الرأي العام العربي، وأشار المعهد إلى أن القناة ألقت بظلالها على كافة وسائل الإعلام العربية. وقال الكاتب والصحفي الراحل المعروف محمد حسنين هيكل "لا أظن أن أحدا يختلف على حقيقة أن شبكة الجزيرة هي العنوان الأكبر في مجال الإعلام العربي هذه اللحظة من الزمان العالمي". ورأى هيكل أن تفرّد القناة كان بسبب أن "الرؤية حلت مكان محل القوة دون حاجة إلى سيادة دولة وسلطتها، أو هوية وطن وسياسته. إن استشهاد شيرين لفت النظر إلى مدى قوة وفعالية القوانين الدولية لحماية الصحفيين وغير الصحفيين في مناطق النزاعات، لاسيما القانون الدولي الإنساني. ووفقا لقانون حقوق الإنسان فإن دولة الاحتلال الإسرائيلي وقعت على الأقل تحت طائلة خرق "الحق في الحياة"، إذ يحظر قانون حقوق الإنسان، الحرمان التعسفي (خارج إطار القانون) لشخص من حياته، بما في ذلك أعمال القتل السلطوي المفرطة، كأن يكون قتل شخص على يد قوات أمن دولة غير ضروري مطلقا بالنسبة للأغراض القانونية. ويحمي القانون الدولي لحقوق الإنسان العديد من الحقوق التي تؤثر على الصحفيين بما في ذلك حرية التعبير الذي يتضمن البحث عن واستقبال ونقل المعلومات والأفكار من كل الأنواع، بغض النظر عن الحدود بين الدول، ومن خلال أي وسيلة. ويمنح القانون وسائل الإعلام حماية خاصة بموجب هذا الحق.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 05/13/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة