بدت أوكرانيا اليوم خائفة، مترقبة، متوجسة، وهي بين مطرقة وسندان عملاقين متنافسين بل ومتباغضين، لا سيما حينما آنست كييف تراجعا وتراخيا ممن استنجدت به؛ فالولايات المتحدة وحلف الناتو حساباتهما تقوم على مصالحهما أولا، وليس على أساس نجدة الملهوف والغريق، كما قد يتبادر لبعض الطيبين. روسيا المتربصة بأوكرانيا، تحاذرها وتخشاها واشنطن وحلفاؤها، وبالضرورة فإن حسابات مواجهتها والتصدي لها قائمة على الربح والخسارة؛ فإن تآلفت حسابات أوكرانيا مع حسابات المنقذ فبها ونعمت وإلا فإن صرخات كييف ذاهبة أدراج الرياح، فليس لدى كييف خيل تهدد بها ولا مال تفديه. أوكرانيا التي تقع في قلب عاصفة غزو روسي وشيك، قالت إنها لم تتوقع التراجع الغربي بهذه الصورة المبكرة، وإن روسيا المتنمرة تتجه نحو تحقيق ما تريد. وقالت أيضا إن تهديدات بايدن لبوتين بعقوبات قاسية ليس لها تأثير، ولم تثنِه عن حشد قوات أكبر في بحر آزوف، الذي تسيطر روسيا على 70% من مساحته. السؤال هو: هل أضحت حسابات الكبار تتأسس على «نضج» أسهمت فيه تجارب تاريخية مريرة، وليس الأمر متعلقا بنجدة أوكرانيا بل هو أكبر وأشمل من مجرد التزامات أخلاقية تجاه الغير؟. صحيح أن لكل من الأطراف المتصارعة مصالح وأهدافا استراتيجية في أوكرانيا، بيد أن هذه المصالح قد تبدو التضحية بها أو المساومة عليها أقل من أن تتسبب في اندلاع حرب عالمية ثالثة لا تبقي ولا تذر. إن تسمية حرب ما بأنها عالمية يكون بسبب اشتراك دول كبرى فيها، إلى جانب ضخامة الخسائر البشرية والمادية. في التاريخ البشري القريب قامت حربان عالميتان، الأولى عام 1914م، بينما اندلعت الأخرى عام 1939م. وأقل ما يقال عن أسباب اندلاعهما أنها تافهة بالنظر في المآسي والخسائر التي خلفتهما. فقد كان السبب المباشر للعالمية الأولى حادث اغتيال ولي عهد النمسا، بينما كان في زيارة مع زوجته لإقليم البوسنة والهرسك، وسارعت النمسا بشن حرب على صربيا التي ينتمي إليها القاتل، ثم اصطفت روسيا إلى جانب صربيا، بينما اصطفت كل من ألمانيا، وإيطاليا، والدولة العثمانية إلى جانب النمسا، كما وقفت الولايات المتحدة وبريطانيا، وفرنسا مع روسيا. وكانت هناك أسباب أخرى وتبدو ماثلة كذلك اليوم، مثل التحالفات العسكرية التي نشأت بين دول أوروبا وروسيا وما أحدثته من تجاذبات سياسية، وسباق تسلح محموم. فضلا عن الفائض التجاري والصناعي والبحث عن توسيع النفوذ والحصول على المواد الأولية، ومن ثم تصريف الفائض في الأسواق. في الحرب العالمية الثانية، أقدمت ألمانيا على غزو بولندا بعد أن ضمت النمسا وتشيكسلوفاكيا إليها، وكان ذلك سببها المباشر. وإن أجمع الناس على ضخامة وفظاعة خسائر الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945)، فإن ذلك كان بسبب التطور التكنولوجي، ولكن حربا عالمية ثانية ستبلغ معاناتها عنان السماء ولا يمكن بأي حال من الأحوال تصور حجم دمارها؛ إذ التطور التكنولوجي اليوم لا يقارن بالتطور قبل أكثر من 75 عاما. وتأثير الحرب العالمية لا يستثني أحدا، إذ تؤثر على كافة دول العالم وتستمر لعدة سنوات. وكل ذلك لا ينفي حقيقة أن الاستعداد للحرب واتقاء شرورها في آن واحد ديدن الدول الحصيفة وذات النظرة الاستراتيجية البعيدة. قبل نحو 6 سنوات تحدث ثعلب السياسة الأمريكية المخضرم هنري كيسنجر عن اقتراب أوان حرب عالمية لوّاحة. وقال كيسنجر لصحيفة أمريكية: «إن نُذُر الحرب العالمية الثالثة بدت في الأفق وطرفاها الولايات المتحدة من جهة والصين وروسيا وإيران من جهة أخرى». فإن استبعدنا أن كيسنجر لا يحتاج لإثارة فرقعات إعلامية، فهو شهير ومعروف حتى درجة التشبع، فهل ذلك يعني أن الرجل يتحرك في سياق استراتيجي أمريكي قومي؟ وما هي الرسالة المرادة؟ وما الجهة المقصودة بها الرسالة؟. ما عضّد السياق الدعائي لتصريحات كيسنجر لصالح الولايات المتحدة وليس التحليل الموضوعي، قول الرجل: «ستكون الحرب شديدة القسوة بحيث لا يخرج منها سوى منتصر واحد هو الولايات المتحدة». وقوله أيضا: «ومن ركام الحرب، سيتم بناء قوة عظمى وحيدة قوية صلبة منتصرة هي الحكومة العالمية التي تسيطر على العالم». مضيفا: «لا تنسوا أن الولايات المتحدة تملك أكبر ترسانة سلاح في العالم، لا يعرف عنها الآخرون شيئًا، وسوف نقوم بعرضها أمام العالم في الوقت المناسب». على صعيد واقع مسرح الصراع تتحدث واشنطن عن نشر قوات في دول أوروبا الشرقية الحليفة في إطار «الناتو»، إذا ما صعدت روسيا ضد أوكرانيا، دون إشارة إلى دعم مباشر لكييف. من جانبها أعلنت موسكو بدء مناورات على عدة جبهات قريبة من أوكرانيا. بل إن الأزمة الراهنة قد تجاوزت شرق أوكرانيا إلى حشود كبيرة في الشمال والجنوب أيضا، مما يزيد احتمالات غزو روسي واسع، إذا ما استمر تنامي الحشود والحشود المضادة. اليوم أوكرانيا تتحسر على أن حلفاءها توحدوا حول فكرة أنه ليست هناك حاجة لدخولها إلى حلف الناتو حاليا، خوفا من أن تتأزم العلاقات مع موسكو أكثر، على اعتبار أن هذا يشكل أهم الضمانات التي تطالب بها روسيا. وتستنكر كييف كذلك ما اعتبرته عبارات دعم ناعم تتعلق بسيادة ووحدة وسلامة أراضيها، لأن ذلك أمر خالٍ من أي مضمون عملي. ولو فكرة كييف في غمرة غضبها وهلعها في مصيرها حال اندلاع الحرب الثالثة بسببها وانطلاقا من أراضيها، لاستدركت أن أقسى ما يمكن أن يصيبها من غزو روسي محتمل لن يقارن بأي حال من الأحوال بكابوس حرب عالمية مدمرة.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاين SudaneseOnline اليوم الموافق 12/17/2021
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة