مع حلول الذكرى الـ65 لاستقلال السودان الاسبوع القادم يستبد القلق والاشفاق بالسودانيين، وقد تبدت جليا خيوط المؤامرات الخارجية بإسناد داخلي، لتمزيق وتفكيك الوطن المثخن بالجراح والطعنات الدامية. لقد قطعت المسؤولة الأمريكية سوزان رايس في كتابها (Tough love) الصادر حديثا، أنها وآخرين وراء انفصال جنوب السودان وفرض العقوبات الأمريكية، ووضع السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب، وليس ذلك بعيدا عن تقرير (CIA) الأخير أكتوبر الماضي. لم يعد الخوف من الانهيار الاقتصادي الماثل فحسب، فذلك تحدٍ يتقازم أمام تصاعد مخاطر تفكيك الدولة ومحوها من الخريطة الدولية، اليوم مشروع التفكيك يسير عبر مسارين متوازيين كلاهما ينم عن لؤم ومكر؛ الأول تحطيم عقيدة وقيم وأخلاق المجتمع، وبث الفجور والانحلال، أما المسار الثاني النيل من الجيش القومي عبر دعوات إعادة هيكلته ومهاجمة استثماراته وشركاته. والثورة التي أطاحت بالنظام السابق بزعم الاصلاح السياسي والاقتصادي لم يجد السودانيون منها إلا سرابا بقيعة حسبوه من شدة ظمئهم للاصلاح والتنمية ماءً. المشهد اليوم مفعم بفوضى سياسية ضاربة وقوات أممية تترا جحافلها، وموساد إسرائيلي يرتع في طول البلاد وعرضها، عندما غادر المستعمر البريطاني البلاد في 1956 ترك سجن «كوبر» في قلب الخرطوم، وكان قد نكل فيه بالمناضلين ضده، لكن هذا الإرث الاستعماري ظل باقيا حين أصبح صبح الاستقلال فبقي السجن وكذلك السجان، فأخذ السياسيون يذيق بعضهم بأس بعض في هذا السجن. اليوم «كوبر» يئن بأعداد هائلة من السياسيين حكام الأمس بدون عدالة أو محاكمات، بالأمس استقال قاضي محاكمة الرئيس السابق عمر البشير وأعوانه، لما شعر بهول الضغوط السياسية وعبثية المحاكمة من أساسها، ومع أن القاضي سبب الاستقالة بمعاناته من مرض ضغط الدم، إلا إنه غالبا كان مصابا بالضغط قبل توليه أمر المحكمة، فلماذا لم يعتذر منذ البداية علما بأن ضغط الدم مرض شائع جدا بين العاملين في كل المجالات؟ لقد مثلت الاستقالة إشارة مهمة لاهتزاز مشروعية القضية إذ إنها سقطت بالتقادم، والدعاوى ضد الانقلابات العسكرية عادة مشاريع للاستثمار السياسي بيد أنه استثمار ضعيف العائد ومنعدم الجدوى، ولو أن القاضي المستقيل قد سبّب استقالته بعدم البيئة الملائمة للعدالة المفترضة، لوجد ملاذا آمنا في شعبه التواق للعدالة والإنصاف واستقلال القضاء. في مسار تحطيم القيم والاخلاق أصبح الناس يمسون ويصبحون على قرارات ادارة المناهج بوزارة التربية الهادفة إلى تقليل الجرعة الدينية في المناهج، وحذف الدين من المقررات، وأشارت نتائج دراسة حديثة أجراها علماء في المناهج وخبراء تربويون وعلماء اجتماع، على المناهج الجديدة، إلى أن المقررات المدرسية الجديدة تبعد بشدة عن قيم الدين الإسلامي الحنيف، وتلتف حول ثقافات وقيم مستوردة وغزو ثقافي أقرب للطائفية ولمنهج الجماعات الدينية المبتدعة، وبعضها يقترب من ثقافات قيمية غير عربية، كمنهج الأخلاق عند البوذيين والهنود والكنفوشسية القديمة، والتي تتناول مفهوم الأخلاق كسلوك بشري مرتبط بما يؤمن به الفرد بعيداً عن التعاليم السماوية، وأكدت الدراسة أن تلك المقررات الجديدة لا تستوعب وجدان الشعب السوداني، ومتطلبات المجتمع، ومعلوم أن مجمع الفقه الإسلامي قد دعا في وقت سابق إلى وقف تعديل المناهج، والاستمرار في تدريس المنهج القديم الى حين التوافق على إصلاح المناهج عبر مؤتمر تربوي شامل، لكن الغرض السياسي كان أقوى. وفي سياق متصل طالب محام كبير عينته الدولة لرئاسة لجنة تحقيق مثيرة للجدل، من قاضي محكمة جنايات الخرطوم وسط التي تنظر في محاكمة مواطن بتهمة استيراد حاوية خمور مستوردة تحوي نحو 12 ألف زجاجة خمر بالإفراج عن الحاوية بحمولتها وتسليمها لصاحبها، لأنه مسيحي ويحق له التعامل في الخمور ورفض القاضي الطلب. وقال في جلسة المحاكمة «لن أدون هذا الطلب في المحضر ناهيك عن النظر في قبوله أو رفضه»، وجاء فى حيثيات التحري أن الحاوية ضبطت قرب مبنى منزل أحد السفراء الأجانب بالخرطوم لاستخدامها في حفلات رأس السنة الميلادية، وادعى المتهم أن الخمور مستوردة للسفارة الأمر الذي نفته السفارة. كذلك في سياق هذا المسار الماكر لا تزال قصة هروب فتاة مع شاب من دولة جنوب السودان حديث المجتمع، الفتاة (19 عاما) مع شاب إلى دولة جنوب السودان بعد رفض ذويها خطبتها له وأشيع أنها خطفت، لكن الفتاة فاجأت الجميع عبر مقطع مصور بأنها غادرت البلاد بكامل إرادتها، للزواج من شخص ترى أنه مناسب لها، وانتشرت صور جديدة للفتاة مع زوجها، ظهرت فيها بدون حجاب، واستندت الفتاة في معصية ذويها إلى إسقاط شرط الولي في الزواج ضمن تشريعات جديدة أصدرتها السلطة الانتقالية غير المخولة بهذا الأمر، ودعمت ما يسمى بمنظمة «لا لقهر النساء» ذات التوجهات اليسارية العلمانية، الفتاة وقالت مسؤولة المنظمة: «أن تنتصر الثورة يعني أن تنتصر قصص الحب الجميلة». أما المسار الظلامي الآخر في خضم مشروع تفكيك الدولة هو دعاوى إعادة هيكلة الجيش القومي، وهي دعاوى ظاهرها حق وباطنها باطل، ولعل تولي الادارة الأمريكية كبر هذه الدعوة دليل على النوايا الماكرة التي تستهدف أعظم مؤسسة قومية تتمتع بثقة الشعب وأكبر ممسك للحمة الوطنية، والجيش السوداني يعتبر أحد أقوى 10 جيوش أفريقية، وتزعم أدوات الخارج الداخلية أن الجيش غدا مؤدلجا بأتباع التيار الإسلامي لكنهم ينسون أو يتناسون أن ذات الجيش هو من لجأ إليه الثوار ولولاه لما حدث التغيير السياسي القائم حاليا. هذا الجيش المفترى عليه أصبح ينتج سلاحه بنفسه عبر منظومة التصنيع الحربي التي للأسف مُكن وفد إسرائيلي زائر من زيارتها في اطار خطوات التطبيع المشؤوم مع اسرائيل، وأكد أحد أعضاء مجلس السيادة الانتقالي، زيارة الوفد الإسرائيلي مفسرا الماء بالماء بقوله إنها زيارة «ذات طبيعة عسكرية بحتة، وليست زيارة سياسية»؟!.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة