في خضم الأزمة الأوكرانية الروسية الخطيرة ذات التأثيرات الدولية المباشرة على الأمن والاستقرار الدوليين، تُطرح عدة تساؤلات تفرض نفسها ويصعب تجاهلها؛ فما مدى وجاهة القلق الروسي على أمنه؟. وهل ورط الأوكرانيون أنفسهم ولم يتخذوا ما يجنبهم هذا المآل؟. وما مدى دخول واشنطن في هذه الحرب بشكل مباشر؟. وربما السؤال الأكثر إلحاحا، هل هناك من أفق للحل السلمي؟. لعل الحقائق الجيبوليتكية تشير إلى امتداد التشابك بين روسيا والولايات المتحدة في معظم أنحاء العالم؛ فمن أوروبا الشرقية إلى جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وصولا إلى إفريقيا، حيث إن تصادم الأطماع والمصالح بين الدولتين ظل قائما على مستويات مختلفة من الحدة ظرفيا ومكانيا، بيد أن الظرف الحالي جعل منطقة أوروبا الشرقية تقفز إلى هرم الأولوية القصوى. وتبدو أوروبا الشرقية امتدادا حيويا لروسيا وفي ذات الوقت هي جزءٌ لا يتجزأ من أوروبا التي تمثل جزءاً مهما من المنظومة الغربية. ولعل روسيا منذ أن كانت تعرف بالاتحاد السوفييتي ما قبل تسعينيات القرن الماضي، قد تعرضت لعملية إنقاص وزن إجبارية من قبل خصومها الغربيين نتيجة الحرب الباردة، فتفكك الاتحاد السوفييتي شذرا مذرا، وأصبح الدب الروسي هزيلا كامرأة زلّاء ضاوية كعود معلقة عليه ثيابها من شدة نحافتها، وأصبحت هذه الثياب التي تفوق حجم ومقاس صاحبها عرضة لتجاذب الطامعين. وقبل أن تنكشف عورة روسيا بالكامل بدأت تستعيد وزنها وتبحث عن ملابسها وترقعها لتناسب الوزن الجديد المكتسب. يقول رئيس اللجنة المركزية للحزب الشيوعيّ الروسيّ، غينادي زيوغانوف، لصحيفة برافدا" الروسية في 14 أكتوبر الماضي، إن أمن روسيا يقتضي استعادة دائرة الأصدقاء والحلفاء. واليوم يعتقد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن من يسيطر على أوكرانيا كاملة غير روسيا من شأنه أن يشكل تهديدا للأمن الروسي، في إشارة للولايات المتحدة وحلف الناتو. ولذلك فإن حرب روسيا والغرب الذي تمثله أوكرانيا ليست حربا بين الديمقراطية والديكتاتورية ولا بين القانون الدولي وشريعة الغاب، وإنما هي حرب نفوذ وتحكم، بين روسيا من جانب وأوروبا الغربية من جانب آخر بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية. بيد أن بوتين على الأقل على المدى القصير والمتوسط، لا يطمع في مواجهة شاملة وتبقى أهدافه الآنية في إطار إبعاد شبح الناتو الذي يمثل التحالف العسكري للمنظومة الغربية، وإعادة تموضع بلاده على مستوى التأثير والفعل الدوليين على أيام الاتحاد السوفييتي. من ناحية أخرى يبدو أن مصاب أوكرانيا جزءٌ كبير منه بيدي لا بيد عمرو؛ فبمجرد أن عقدت النخبة في أوكرانيا تحالفاً مناهضاً لروسيا مع واشنطن والناتو، فلم يعد لديها فرصة لاستقلال حقيقي، بل مع الاجتياح الروسي الأخير لا يبدو أنها جنت شيئا من ذلك التحالف فالكل يتفرج عليها، بل أن الحلفاء الغربيين دفعوا أوكرانيا إلى إصلاحات ليبرالية لا تتناسب مع طبيعتها وتاريخها، فحرمتها مما تبقى لها من صناعة زراعة وإمكانات علمية. واليوم تجترُّ أوكرانيا علقم الندم وتقول أنها ضحية تقديرات خاطئة لحظة توقيعها على مذكرة بودابست للضمانات الأمنية، في 5 ديسمبر 1994، تلك المذكرة التي جردتها من سلاحها النووي وأمنها في آنٍ واحد. ووفقاً للمذكرة، تنازلت أوكرانيا عن ترسانتها النووية لروسيا، وتعهدت كلا من روسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة باحترام استقلال أوكرانيا وسيادتها على أراضيها، وحمايتها من العدوان الخارجي. ومع كل هذه المعطيات هل كانت واشنطن تعد نفسها للحرب منذ فترة؟. البعض نظر إلى عدة مؤشرات أعتبرها دليلا لنية واشنطن خوض الحرب منها، الانسحاب السريع غير المبرر من أفغانستان، والإسراع في تسوية نزاعات وأزمات بعض الحلفاء والأصدقاء، فضلا عن الحرص الأمريكي على إعادة العمل بالاتفاق النووي مع إيران والوصول إلى تسوية معها. في ذات الوقت هناك تحركات تبدو مريبة لحلفاء واشنطن وبإيعاز منها؛ فقد تفاجأ الناس من تخلي سويسرا عن حيادها فقررت تجميد أموال روسيا، وأن فنلندا التي أرسلت رسالة حياد إلى بوتين قبل أسبوع قد تراجعت وقررت الانضمام للناتو وإرسال أسلحة لأوكرانيا، وأن ألمانيا وبعد نحو 8 عقود خرجت قوقعة اشتراطات الحرب العالمية الثانية ودخلت في عسكرة صناعاتها لمستويات وصلت حد ما قبل تلك الحرب، وحتى السويد التي بقيت محايدة من عام 1914 قررت التخلي عن حيادها البحري والانضمام لخطط الناتو. وأخيرا هل من أفق للحل السلمي؟. مع حقيقة أن الطرفين، الغرب وروسيا، يتصارعان حول النظام العالمي، فمن جهة تريد أمريكا الاستمرار في قيادة العالم. ومن جهة أخرى تتطلع روسيا إلى قيادة ثنائية للعالم واستعادة دورها كما كان؛ فإنه لابد من استعادة توازن القوى العالمي، وربما الأفضل قيام اتحاد يجمع روسيا وبلاروسيا وأوكرانيا، وقد يمثل هذا ضمانة لمجمل الأمن الأوروبي والعالمي. أما بالنسبة للقدرات النووية، فلابد من أن تبقى في إطار الردع المتبادل دون أن تستعملها أي من الدول التي تملكها لأثرها التدميري على طريقة "علي وعلى أعدائي". ويقتضي السلام العالمي أن يجلس الكِبار الفاعلون في هذه الأزمة على طاولة التفاوض، دون التعويل على قرارات منظومة الأمم المتحدة، لأنها ببساطة لن تُحقق أكثر مما حققته تلك القرارات في فلسطين، سيما وأن لدى كلا المتحاربَين حق الفيتو القادر على إبطال أي قرار لا يراه أي طرف أنه يخدم مصلحته. العالم اليوم يتطلع لنظام عالمي جديد، وبقيادة متعددة الأطراف، يتولى قضايا عالمية عديدة فضلاً عن السياسية والأمنية، منها عولمة الإنترنت، والعملة الدولية، ونظام عمل الأمم المتحدة، ومؤسساتها، ومعضلة التلوث المناخي. ولعل في مقدمة كل ذلك والممهد له، أن تسحب طلب انضمام أوكرانيا إلى الناتو وإنهاء التمدد الشرقي للحلف تجاه حدود روسيا لمنع المواجهة الشاملة.
yasir_mahgoub@
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 03/04/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة