من يتابع تحركات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال السنوات الأخيرة، لا شك أنه مقتنع بأنه لم يعد في حاجة لبثّ رسائل مشفرة إلى خصومه الدوليين، والحصيف هو عندما يرى نيوب الليث بارزة لا يظن أبداً أن الليث يبتسم. فما هي حدود طموحات بوتين داخليا وخارجيا، وإن كانت طموحاته الداخلية تعتبر شأناً داخلياً وأن آثارها تبقى في حدود الداخل الروسي، فما هي حدودها خارجياً، وإلى أي حدٍّ يملك بوتين نفسه عند تصاعد حالة العظمة والغضب والثأر لديه، يدرك أن المغامرات العسكرية ليست نزهة وإنما تخلّف واقعاً من الدمار الشامل؟. في المقابل ومنذ سقوط أو إسقاط "إمبراطورية" الاتحاد السوفييتي التي ورثها بوتين مفككة مهيضة الجناح، هل أمعن الغرب في "احتقار" بوتين و"إمبراطوريتيه" الجريحة لأكثر من ثلاثة عقود، فاستدعى ذلك أن يغضب بوتين ويثور بعد أن أكمل لعق جراحه مردداً قول الشاعر عمر أبو ريشة:
إن للجرح صيحة فابعثيها ** في سماع الدنى فحيح سعير
المحللون أجمعوا أن هناك تحولاً عميقا في حركية العقل الروسي وإستراتيجيته تجاه الفضاء الجيوسياسي المحيط، بل في ما أبعد من الفضاء المحيط. لقد تجاوز بوتين ذو الخلفية المخابراتية خلال عقدين ونصف من الزمان التفكير التقليدي لأسلافه من قادة روسيا القيصرية ثم روسيا السوفيتية، وكان متعلقا بالمجال الجغرافي الحيوي المحيط بالإمبراطورية في مناطق القوقاز ووسط آسيا وأوروبا الشرقية والبلطيق. بيد أن اليوم طموحات قيصر روسيا الجديد ترتكز على فكرة أيدولوجية جديدة تستصحب السلطة المعنوية للكنيسة الأرثوذكية ليس في روسيا فحسب، وإنما في العالم وتأثيرها على العلاقات الدولية. وبذلك يكون بوتين قد أقر بموت الأيدولوجية الشيوعية وكتب شهادة وفاتها وشيعها لمثواها الأخير ضمن متحف التاريخ الإنساني. فهذا تحول دراماتيكي في إطار لعبة السياسة باعتبارها أداة للسيطرة والتحكم؛ ففي الحقبة الشيوعية، كان "الدين أفيون الشعوب"، ونال رجال الدين من الأرثوذكس والمسلمين وغيرهم حظوظا غير منقوصة من المذابح والتنكيل. لكن بوتين اليوم يتقرب إلى رجال الدين الأرثوذكس ويظهر الاحترام للكنيسة وسدنتها، بل إن التشريعات والقوانين الموقعة بقلمه تترا، وهي تحض على القيم الروحية التي تتأسَّس عليها الإمبراطورية الروسية. وهناك من يرى أن توجّه بوتين هذا ليس مجرد تكتيك محدود ولا براغماتية ظرفية وإنما هي إستراتيجية بعيدة تمهد عودة روسيا لنموذج سلطوي كما في عهد الإمبراطورية البيزنطية، وكان نموذجا متحالفا مع الكنيسة الأرثوذكسية. إن اعتصام بوتين بحِمى الكنيسة الأرثوذكية يؤكد ديمومة الصراع بين الشرق والغرب وهو الأمر الذي لم يتغير رغم تغير أدوات الصراع؛ فمنذ العام 451م، وقع حدث كبير تسبب في تمايز المسيحية إلى كنيستين شرقية وغربية، تختلف نظرة كل منهما تجاه بعض المسائل العقدية المتعلقة بالمسيح والثالوث وغيرها. ومن المعلوم أن هناك بابا للكاثوليك في الفاتيكان، وآخر للأرثوذكس في الإسكندرية، ومع تنامي التحالف المتوثّب الضاري بين القوة المادية العسكرية والمتمثلة في الكرملين وقيصره من جهة، وبين القوة المعنوية المتمثلة في الكنيسة الأرثوذكية من جهة أخرى، فهل تنتقل بابوية الكنيسة الأرثوذكية من الإسكندرية إلى موسكو؟. ولعل من حاول قراءة لغة الجسد التي استخدمها بوتين مع ضيفه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبل نحو أكثر من أسبوع، وكانت مثار جدل عالمي لم ينتهِ بعد، لا شك أنه يمكنه سبر أغوار ما يفكر به بوتين. فقد أراد إرسال رسائل إلى الغرب بمكوناته السياسية والدينية، مفادها أننا قادمون، نحن روسيا البيزنطية والكنيسة الأرثوذكية. جاء ماكرون الذي يرأس حاليا مجموعة الاتحاد الأوروبي وهي جزء مهم من الغرب، للتوسط في الأزمة الأوكرانية، وهي قضية تفصيلية صغيرة في إطار الصراع بين الشرق والغرب، لكنها بدت بشكل متعمد ولسبب ما، قضية محورية على الأقل من جانب الغرب الذي زرع بعناية مكبرات صوت في أوكرانيا ليسمع العالم صراخها كلما نحنح القيصر الروسي، والنحيح لغة صوت يُردِّدُه الرجلُ في جوفه. في تلكم الزيارة قال بوتين لماكرون ليس موضوعنا أوكرانيا فروسيا قادرة على "تأديبها" وإعادتها للسرب البيزنطي، فعُد من حيث أتيت ولا تعقّب. ولم يصافح بوتين ضيفه وأجلسه في طرف طاولة طويلة جعلت بينهما مسافة ممتدة، بصورة أثارت السخرية. ولم يُزل استغراب العالم تلك التفسيرات التي أطلقها القصر الرئاسي الفرنسي بأن ذلك كان بسبب التزام ماكرون بقواعد تباعد اجتماعي في روسيا شديدة الصرامة. لكن بوتين استقبل بعد ثلاثة أيام فقط رئيس كازاخستان وصافحه وجلسا متقاربين لا يفصل بينهما سوى طاولة صغيرة لوضع القهوة عليها. إن ما يشجع طموحات بوتين هو تفكك المنظومة الغربية وتضعضها، ابتداءً من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي قبل نحو عام، فضلا عن تلك الأزمة الناشبة عن الاتفاقية الأمنية التي ضمت الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في سبتمبر الماضي، وهي التي أثارت غضب فرنسا والاتحاد الأوروبي قبل أن تثير غضب الصين وقد كانت الطرف المستهدف أصالة وهي ضمن الشرق الجيوسياسي. وانتقدت فرنسا ومن ورائها الاتحاد الأوروبي، تلك الاتفاقية ورأت في الأمر "خيانة" و"طعنة في الظهر"، إذ جاءت على حساب صفقة عقدتها مع أستراليا منذ 2016. العبرة المستخلصة أن الدين ليس محورا أساسيا في الحياة اليومية وإنما محرك مهم لدولاب السياسية وكذلك الأطماع والطموحات السلطويّة غير المحدودة؛ بيد أن الغرب والشرق المسيحيين معا وهما يستخدمان الدين، يحرمان على المسلمين ليس استخدام دينهم على نحو رغائبي كما يفعلون هم، ولكن حتى مجرد تطبيقه في حياتهم والأخذ بقيمه السمحاء، فاجترحوا "تهمة" الإسلام السياسي ومضوا رفقة مواليهم في الداخل الإسلامي يدبجون المرافعات الكيدية الظالمة. إن الإسلام هو الدين الخاتم والمعترف بكل الأديان السماوية، وهو الدين الذي يمكن أن يؤسس ليس لإمبراطورية سلطوية ولا مدينة إفلاطونية فاضلة، ولكنه يؤسس لعالم مستقر يسوده سلامٌ ورفاهٌ مستدام. yasir_mahgoub@
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق 02/18/2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة