قد يدرك الساسة السودانيون إن لم يكونوا في غيهم سادرين، أن استمرار الصراع الحاد بينهم حول السلطة سيفضي حتما لتفكك وضياع وطنهم وحينها لن يجدوا سلطة ووطنا يصطرعون عليه. وحدها دولة المؤسسات باسناد نظام سياسي معافا، تضمن بقاء التنوع والتباين السياسي في اطار التنافس والتبادل السلمي للسلطة بإرادة شعبية حرة، وليس الاصطراع المدمر كما يجري اليوم ومنذ عقود مضت. صحيح أن المشكلة الرئيسية اليوم هي الأزمة الاقتصادية بيد أن المتسبب فيها هو الفشل السياسي المزمن والمتواتر والذي تسأل عنه كل القوى السياسية مدنية ومسلحة، معارضة وحكومة. فكيف لبلاد تكاد تكون الدولة الأغنى عالميا بالموارد الطبيعية، فوق الأرض وفي باطنها، تغدو فيها مشاهد الفقر المدقع والعوز وتضخم الفئات الاجتماعية المهمشة وانتشار البطالة، سمة غالبة للدولة؟. ولعل كل ذلك يعكس مدى الخلل البنيوي في الاقتصاد القومي بسبب العبث السياسي الذي خلف واقعا مزريا. قبل نحو عامين اندلعت الثورة رفضا لواقع كان الأفضل من الناحية الاقتصادية على الأقل، فاحدثت تغييرا فجائيا لنظام الحكم السابق، على أن يلي ذلك اصلاح سياسي لكن الفوضى السياسية التي طرأت على المسرح السوداني إثر تلك الثورة استدعت تغييرا سياسيا وليس اصلاحا فحسب، لأن الإصلاح يهدف لمعالجة بعض المشاكل والأخطاء الجادة دون المساس بأساسيات النظام. لكن المطلوب اليوم أكثر من ذلك وهو احداث ثورة جديدة وتغييرات جوهرية تمس بنية النظام السياسي، ولا غرو أن الثورة تسعى للتغيير الشامل والجذري. وبما أن الإصلاح السياسي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالديمقراطية، والديمقراطية مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بالمجالس المنتخبة بكافة أنواعها ومنها النيابية. فسودان ما بعد الثورة لا طال بلح الشام ولا عنب اليمن، فلا نظام سياسي قابل للاصلاح ولا مشاركة حقيقية للمواطنين في صنع القرار وإقامة المؤسسات الديمقراطية وتعزيزها. قبل نحو 6 أشهر تم تعيين ولاة مدنيين لولايات البلاد المختلفة ضمن نظام الحكم الفدرالي وبالأمس أصدر رئيس مجلس السيادة الانتقالي مرسوما بالتحول من نظام الولايات والعودة لنظام الأقاليم وحدد المرسوم عدد الأقاليم وحدودها وهياكلها واختصاصاتها وسلطاتها ومستويات الحكم والإدارة. وهكذا تمضي حكومة الفترة الانتقالية تتخبط في قضايا لا يتم الفصل فيها إلا عبر الاستفتاء العام. أما تلك القضايا التي يجب أن يفتي فيها البرلمان المغيب وحده فحدث ولا حرج. لقد أوغلت هذه الحكومة الانتقالية في تغيير القوانيين والتشريعات بدون سند قانوني وأقامت علاقات مع إسرائيل في ظل سريان قانون مقاطعة إسرائيل وشرعت في تغيير المناهج التعليمية. وحتى مسوغات العودة لنظام الأقاليم بدت واهية باعتبار مرجعية اتفاق السلام الذي وقع مع الحركات المسلحة، إذ أنه رغم ذلك مازالت هناك حركات مسلحة تمانع، فضلا عن أن السلطة الانتقالية لا تملك مشروعية منح ذلك الأمر للحركات المسلحة التي دخلت بمليشياتها العاصمة الخرطوم لتزيد خطر استخدام الخصوم والفرقاء السلاح في صراعاتهم. ولعل السلطة الانتقالية اليوم واقعة تحت ضغوطات متزايدة بسبب الفشل الاقتصادي والتدهور غير المسبوق في مستوى معيشة المواطنين الأمر الذي صاعد من وتيرة الاحتجاجات الشعبية وتدني ثقة جمهور السودانيين في من بيدهم السلطة اليوم. ولعل الطريق السهل للتصدي للغضب الشعبي هو محاولات اشغال الناس بمعارك سياسية مع منسوبي النظام السابق وإلصاق تهم أسباب التدهور بهم باعتبارهم هم من يتسبب في الازمة الاقتصادية لا الفشل السياسي. فضلا عن اعتقاد المتنفذين حاليا بأن منسوبي النظام السابق يقودون الاحتجاجات ويصبون الزيت عليها. ولعل ما يعرف بلجنة إزالة التمكين التي تقوم بدور النائب العام والقضاء والأمن في آن واحد، تمثل رأس الرمح بما لها من صلاحيات يمكن توظيفها في المعركة السياسية مع النظام السابق في اطار يبدو مقننا. كما أن حرص اللجنة على تصدير نشاطها إعلاميا يشير إلى سعيها لتحقيق أثر سياسي سواء اخافة الخصوم أو اشغال الناس وإلهائهم في خضم معاناتهم المعيشية الضاغطة. ولعل ما تقوم به هذه اللجنة يمثل عاملا قويا في تأزيم المشهد السياسي السوداني وقطعا لطريق التوافق السياسي لمكونات الدولة السودانية. فلا حل للأزمة الاقتصادية دون الحل السياسي ولا يقوم الحل السياسي إلا على التوافق السياسي خاصة في ظل التنوع الذي يزخر به المجتمع السوداني سياسيا وأثنيا واجتماعياً. ولعل باعتراف عددا من المكونات السياسية الحاكمة بأن عزل منسوبي النظام السابق وليس قادته فحسب فضلا عن حملات الانتقام العشوائية لا يعتبر عملا راشدا يؤدي في النهاية للاستقرار السياسي بل يعيق التوافق السياسي الذي يمثل القاعدة الصلبة للاستقرار السياسي ومن ثمّ حل المشكل الاقتصادي المستبد بالواقع السياسي. فالتيار الإسلامي الذي يمثله النظام السابق مكون مهم وله امتداده ولا تقوم الوحدة الوطنية إلا باستيعابه في الحياة السياسية. وإن كان هناك من ارتباط أو ربط بين حملات الاعتقالات والفصل التعسفي، وبين الانتخابات المرتجاة، فإن هذه الحملات تهدف في تصور الحاكمين اليوم لمنع مشاركة التيار الإسلامي في الانتخابات وبالتالي العودة عبر الانتخابات للنشاط السياسي وهو أمر متوقع خاصة في ظل التدهور الاقتصادي والمقارنة التي تفرض نفسها في الأوساط الشعبية، بين فترة النظام السابق وبين ما طرأ اليوم من تراجع خطير في كل مناحي الحياة لا سيما على صعيد الاقتصاديا والامن الذي غدا عزيزا. في ذات لا يبدو ان هناك جدية في إقامة انتخابات لأن القوى السياسية الحاكمة اليوم لا يمكن تصور أن تجد تمكينا سياسيا في البلاد كما تجده اليوم على خلفية ما يسمونه بالشرعية الثورية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة