ارتفعت سخونة المسرح السياسي السوداني نهاية الأسبوع المنصرم إلى درجة الغليان مع تسرب أنباء عن تسوية سياسية بين المكون العسكري ومجموعة الحرية والتغيير المجلس المركزي المعروفة اختصارا بـ "قحت1" بعد انشقاقها لمجموعتين متباينتي الرؤى السياسية. وفيما سربت قحت1 بعض المعلومات عن هذه التسوية التزم المكون العسكري الصمت حتى هذه اللحظة، وربما ذلك يفسر قلقه من ردود فعل بقية المكونات السياسية المعارضة بشدة لهذه التسوية التي جرت مفاوضاتها في الغرف المظلمة حسب وصفها، واستبعدت بقية المكونات التي شكلت الغالبية الغالبة. فضلا عن نكوص المكون العسكري عن تعهدات قطعها، منها الانسحاب من العمل السياسي وعدم تسليم السلطة إلا لحكومة توافقية عريضة لا تستثني أي قوى سياسية عدا حزب المؤتمر الوطني الذي حكم البلاد برئاسة الرئيس السابق عمر البشير. سريعا أعلنت نحو 24 مكونا من المكونات السياسية والنقابية والجهوية والقبلية رفضها لهذه التسوية التي وضعت المؤسسة العسكرية تحت نيران الاتهام بعدم الوقوف على مسافة واحدة من قطاعات الشعب السوداني. مع تكاثر الجدل السياسي وغلبة التسويف والتعنت والتمنع طوال الفترة التي أعقبت إجراءات الجيش قبل عام وذهاب حكومة عبد الله حمدوك، حيث لا تراضي ولا توافق بين الكتل السياسية، كان مؤملا أن يستخدم الجيش صلاحياته لفرض الاستقرار وتهيئة البلاد لانتخابات مستحقة، لا أن يخضع لطرف بعينه تسنده قوة خارجية إقليمية ودولية، تجد فيه أفضل من ينفذ أجندتها في الداخل السوداني. ويرى عسكريون أن تسوية مشبوهة كتلك ستفقد قيادة الجيش من تبقى من الجنرالات الذين تحملوا مسؤولية التغيير الذي أطاح بالرئيس السابق عمر البشير، ليبقى الجنرال عبد الفتاح البرهان وحيدا وهو الخاسر الاكبر ومعه قائد قوات الدعم السريع الجنرال محمد حمدان دقلو الشهير بحميدتي باعتبار أن هذه التسوية لو استمرت شهرا فانها قد لا تكمل الشهر الثاني لأنها ضد إرادة مجاميع وطنية مؤثرة وتمثل الأغلبية وكونها مفروضة من الخارج. فهذه التسوية تقف على سيقان مسودة دستور كتبته لجنة تسييرية لنقابة المحامين وذات توجهات سياسية بعينها، وذلك بدعم وتشجيع سفارات أجنبية لها تدخل معلوم في الشأن السوداني. غير أن التحكم الخارجي في التركيبة السياسية السودانية ظل عصيا على مر تاريخ البلاد. لقد تجاهل المكون العسكري حقيقة أن الحوار الداخلي لابد أن يكون دون اقصاء وذلك هو السبيل الوحيد للوصول إلى حل سياسي للازمة السودانية. وأن تجاوز هذه الحقيقة يعني إعادة إنتاج الازمة مما قد يتسبب في تهديد كيان الدولة السودانية وتماسك نسيجها الاجتماعي. صحيح أن الموضوعية تستوجب فصل القيم السياسية المطلقة عن حقائق الواقع النسبية في أية تسوية سياسية، إلا أنه يجب أن يستند تسلسل خطوات التسوية السياسية إلى تحليل مستمر لمدى وجود اتفاق سياسي كاف في كل مرحلة من مراحل العملية. كما يجب الاعتراف بضرورة وجود مراحل عدة للاتفاق وإعداد الدستور المؤقت قبل بلوغ المرحلة الدستورية النهائية. وفي الحالة الراهنة التي يصر طرفان دون الأطراف الأخرى على مسودة دستور بدا لقيطا سيكون من الصعب الحصول على مشاركة موسعة تضمن فترة انتقالية مستقرة وسلسة. إن تلك التسوية أغفلت ضرورة إيجاد توازن بين الحصول على دعم كاف من النخب السياسية دون اقصاء والعسكرية وبين ضمان قبول اجتماعي واسع. بيد أن الذي جرى تحت الأقبية بين العسكريين والقلة القليلة المعروفة اختصارا بـ "قحت1" والتي انشقت عنها قحت2، تنازلات متبادلة. والاشكالية أن تنازلات المكون العسكري تضمنت النكوص عن تعهدات لكامل الشعب السوداني وليس لـ "قحت1"، بينما تنازلات "قحت1" في اصلها مواقف سياسية متأرجحة وتخص مؤيديها. لقد تراجع البرهان عن بيان 4 يوليو الماضي بانسحاب الجيش من العملية السياسية وكذلك تعهده بعدم اقصاء أي مكون سياسي من الحوار والمشاركة في ترتيبات الفترة الانتقالية. أما تنازلات "قحت1" تمثلت في تراجعها عن شعار اسقاط الانقلاب واللاءات الثلاث (لا شراكة، لا تفاوض، لا مساومة) مع العسكر. فضلا عن رضوخها لقيام المجلس الأعلى للجيش بسلطات واسعة. ولعل النتيجة البارزة أن العسكر أصبحوا محور العملية السياسية ورب قائل أن هذا ما يطربهم، فـ "قحت" تفككت الى قحت1 وقحت2 واليوم الازمة تتعمق في قحت2 نفسها حيث عارض التسوية حزب البعث العربي. كما حزب المؤتمر الشعبي الذي ذكر انه ضمن هذه التسوية يشهد خلافات عميقة وصدر تصريح لأمين الثقافة والإعلام بالحزب ينفي مشاركة الحزب في التسوية. وركز الرافضون للتسوية في على أن التسوية ثنائية وتلقي بظلال سالبة على الوضع الدستوري لقومية الجيش وقيادته وضرورة وقوفه على مسافة واحدة من اطراف الازمة، ويقدح في مصداقية اعلانه الابتعاد عن العمل السياسي. كما أن مسودة دستور اللجنة التسييرية لنقابة المحامين لا يصلح لأن يكون اساسا لعملية سياسية ذات مصداقية ولن يقود إلى حكومة كفاءات وطنية ومستقلة، وأنه يمثل الجهة التي تبنته لا غير ولا يرتكز على اعلان سياسي صادر عن توافق معلن مما يجعله مقطوع النسب سياسيا وثوريا ويعيد تجربة الاقصاء، وهو في احسن الاحوال ورقة من بين أوراق عديدة. لكن قد يبرز سؤال حول ما هي التسوية التي يريدها العسكريون؟ فمع ملاحظة القلق الذي ينتاب العسكريين لاسيما البرهان والمتمثل في مستقبله السياسي فيما بعد الفترة الانتقالية والانتخابات، فإن التسوية المثالية للعسكريين هي تلك التي تضمن وتحدد مستقبلهم. فالسودان ليس ذلك البلد الذي يظل رئيسه السابق معززا ومكرما، محفود محشود لا عابس ولا مفند، فحتى الجنرال عوض ابنعوف الذي أعلن اسقاط البشير وتم الانقلاب عليه بعد 24 ساعة لجأ للقاهرة ولم يأمن حتى رفقاء السلاح على نفسه رغم أنه تنازل بدون مقاومة أو شوشرة. وليس مستقبل عسكر المرجو اليوم أن يكتفوا بالجلوس في بيوتهم مطمئنين بلا ملاحقات قضائية وإنما هو أين يكون موقعهم في هرم السلطة طالما مد الله في أعمارهم.
عناوين الاخبار بسودانيزاونلاينSudaneseOnline اليوم الموافق October, 14 2022
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة