(قدمت في أوائل أكتوبر المنصرم ورقة بعنوان "مفهوم الصفوة: إنني أتعثر حين أرى" إلى مؤتمر "الانتقال الديمقراطي في السودان والجزائر" الذي نظمه المعهد العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، قطر. وأردت بالورقة الطعن في صلاحية مفهوم الصفوة، كثير التداول بيننا، لتحليل فترات التحول الديمقراطي التي تواضعنا على أن مقتلها في صراع الصفوة "وفشلها وإدمان الفشل". وصارت العبارة الأخيرة فينا تميمة أعفتنا من النظر إلى ما بعدها. وأردت هنا أن أشرك الأصدقاء في البحث بنشر مشروعه الذي كنت عرضته على إدارة المؤتمر لأشرع في كتابة البحث بعد قبوله. وهو إشراك "ضوقة" لا أتوقع أن يسوغ لبعضكم من فرط إيجازه في غرضه. ولكنه سيغني إن لفت النظر إلى إشكالية مفهوم الصفوة حتى يظهر البحث في صورته النهائية). يخيم على الفترة الانتقالية في السودان بعد ثورة ديسمبر ٢٠١٨ شبح بالفشل يأتيها مما تعارفنا عليه في علم سياستنا ب"الحلقة الجهنمية" التي تنتهي بمثل هذه الفترة الديمقراطية إلى انقلاب فديكتاتورية على يد العسكر. أريد في هذه الورقة أن أنهج تفسيراً أكثر تعقيداً ل"الحلقة الجهنمية" من جهتين. فأتناول من الجهة الأولى بالنقد لمفهوم الصفوة الذي عليه مدار الحلقة الجهنمية. وهو المفهوم الذي نقلناه إلى خطابنا السياسي عن الفكر الغربي، ولم نستأنسه بتحر وضبط يدني بهما زمامه لنا لمعرفة أعقد ببابنا الدوار بين الديمقراطية والديكتاتورية. أما من الجهة الثانية فسأرد، على بينة نقدي لمفهوم الصفوة، هذه الحلقة الجهنمية إلى "الثورة المضادة" الغائبة في تحليلنا. وهو مفهوم استغنيا عنه لما أخلينا فترة الانتقال الديمقراطي من نازع الصراع الاجتماعي حول قضايا تطرد بها الثورة، أو تتجمد. فما حاجتنا للمفهوم وقد اتفقنا سلفاً أن مدار الأمر على الصفوة كئيبة الخلق التي متى اصطرعت خرج لها بوليس السياسة، الجيش، يؤدبها بانقلاب. ستجادل الورقة بأن مفهوم الصفوة السائد عندنا هجين. فبعض المفهوم أثر من حركة الخريجين الوطنية في الثلاثينات التي تنادى فيها خريجو مدارس الاستعمار، قليلو النفر، للعب دورهم الوطني كصفوة متجاوزة للولاءات الطائفية والقبلية ضاربة الإطناب في المجتمع التقليدي. وهو دور أخذته صفوة الخريجين من ماثيو أرنولد (١٨٢٢-١٨٨٨)، صاحب "الثقافة والفوضى". فرأى أرنولد في المثقف مخلوقاً لا طبقياً، ارتفع فوق قيد الطبقة ليشمل المجتمع كله بفكره. فثقافته وحدة مثالية عميقة تتجاوز النزاع والشقاق والأطماع الصغيرة القحة لعصره الفيكتوري وطبقاته الوالغة جميعاً في التخليط والإرتباك الذهني. و"سودنت" صفوة الخريجين مفهوم أرنولد بجعل أنفسهم جماعة متسامية علي النزاعات القبلية والطائفية بدلاً عن طبقات أرنولد. ستتطرق الورقة إلى ما اعترى مفهوم منصور خالد الأرنولدي للصفوة في الستينات من تغيير في التسعينات. فالصفوة عنده في هذا العقد هي صفوة الصراع الاجتماعي كما في أصل المفهوم الغربي. فهي أقلية افترضت لنفسها "صنع القرار وتقرير المصير . . . بحكم سيطرتها على الحكم والمال والتعليم". وسمى، مصيباً، إنها ولدت في طبقة غير طبقة منشأ أسرها بفضل الشهادات العلمية التي تمنحها لها معاهد التعليم. ثم تجد منصور لا يستقر على فكرت المستجدة عن الصفوة الصراع إلى مفهوم الستينات الناظر للصفوة كجماعة متسامية فوق أهلها نذرت نفسها لخدمتهم ولا تفشل إلا من جهة أخلاقها. فالصفوة، بما امتلكت من أدوات إدارة الدولة، في قوله، أكثر ذنباً من قادة الأحزاب في محنة السودان لأنها من يبشر بالقرار السياسي، ويترجمه في الواقع. وحَمّل هذه النخبة ما عاناه السودان من اختباط سياسي حال دونه ودون التطور والتحديث. وعاد ليرد فشلها، وهي القوة المولدة للثورة الاجتماعية في السودان، إلى الأخلاق لمعاناتها من تصدع الذات الذي يقود إلى فجوة بين الفكر والممارسة. سنصوب مفهوم الصفوة، متى خَلُص لنا من دلالته على جماعة متسامية فوق الجميع تعمل بروح الفريق، لفهم فترة التحول الديمقراطي، لا كحاضنة لصراع مجتمعي وصفوي فحسب، بل لا يستقيم تحليلها في غيبة هذا الصراع أيضاً. وسنستقدم لساحة هذا التحليل مفهوم الثورة المضادة الذي لم يتوطن بعد في شعاب تحليلنا لفشل الفترة الانتقالية. ولن نعتسف هذا المفهوم لأنه حاضر في الواقع في طي مفهوم الصفوة عندنا، ولكنه غير مفعل. فالصفوة في فهم منصور خالد نفسه هي القوة المولدة للثورة الاجتماعية" في وجه" مجتمع وصائي (patriarchy) يُعلي النسب على الكسب". وبلغت شدة وصائية مجتمع النسب هذا في رأيه أن أرهب الصفوة فجفلت عن تقويض مؤسساته التقليدية فاستكانت بالنتيجة للقيم الموروثة. فبدأت هذه الصفوة بمواجهة طبقة الأعيان الوصائية في ١٩٢٤ ومؤتمر الخريجين ثم استسلمت في الأربعينات كما هو معروف. وخلافاً لأهل المفهوم موضوع نقدنا سنرد فشل هذه الصفوة إلى مكر الثورة المضادة، لا إلى مجرد فشل الصفوة التي تتفاني في مراد النفوس و"تناحرهم في مغانم سياسية ضعف الطالب والمطلوب" بينما البلد تخرب بالحرب ويهلك أهلها بأضراس الجوع. سيكون هذا التناحر للمغانم مفردة في تحليل الحلقة الشريرة ناظرين إلى صراع اجتماعي كبير الصفوة طرف فيه.
غلاف كتاب "الصفوة والمجتمع" لتوم بوتومور الذي أخذ مفهوم الصفوة أخذاً ماركسياً
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة