وجدت نفسي منذ شهور أغشى منتديات الحقيبة في شلة كابتنها الصديق يحي محمد صالح. وهذه دورتي الثانية في الانغماس في هذا الغناء القديم. كانت الدورة الأولى في الستينات وكنا فيها مؤديين لا مصتنتين ولو في درجة شيال في قعدات معروفة. ولكن هذه الدورة كانت للاصتنات الجليل. بدأ هذا الاصتنات يوماً في بدء هذا القرن. اقتنيت شريطاً لعابدة الشيخ عنوانه "عين الشمس". وفتنني صوتها الذي وصفته بأن له حمحمة لها طعم الحرير ولمعة منتصف نهار الخرطوم. وقارنت بين صوت البلابل وصوت صبيات جراري الكبابيش وصوت عابدة. فصوت عابدة مثل صوت البلابل وصبيات الكبابيش لم يخلق بعد من يُخْجِلَهن من الحب. فهن، معاً ،جعلن الحب حدثاً مشروعاً نُسلس قيادنا له. فهن يدربننا على احتمال العشق والشغف به. قلت في كلمتي القديمة إنني لا أكاد أمل مراجعة هذا المقطع من أغنية عابدة "كده بالواضح": وأبقى غناي للوطن السيد وأمضى عليّ بالعطر الفائح برضي بقول راجيك وبحلم أصلو بريدك كده بالواضح كده بالواضح. تساءلت في الكلمة عن لماذا كان للحقيبة هذا الأثر الغالب إلى يومنا. وقلت إن الحقيبة ليست عن الحب الذي جعلناه حقلاً للتأويل والترميز وبيتاً يفهم بالإشارة. إذا أردنا الدقة في التعريف فالحقيبة "غي" في معنى الكلمة المعروف. فجاء في تسجيل عابدة لصالح عبد السيد: دائي الغي ودوائي محال والغي هو العشق أو الحب حين يمشي على الحافة بين تعقب ما ظهر من الحبيب (أو ما سمح به المجتمع أن يظهر بينما بَطن منه الكثير) وبين الحرمان منه. الغي جِرسة شديدة. جاء في "غزال الروض" لكرومة: دا الجنن قيس وكتير قبالي ولذا صح من قال إن الحقيبة حسية. ولكن يخطيء القائلون بهذه الصفة للحقيبة حين يجعلون ذلك سبباً لاسترذالها بمعيار أخلاقي. فالأخلاق العادية لم تخلق للحكم على مثل هذا الجنون العظيم الذي تجسم قبلها في "المتجردة" في شعر العرب، وفي "المستحمات" في الفن الأوربي. وهما احتمال مجلل بالعري. مطلبهما هو مطلب الحقيبة. فكلها ثمرة وضع اجتماعي أو ثقافي لا يسمح بوضع حتى غلاف من سلوفان على الجسد. فيكفيه الكفن الاجتماعي الذي يحجبه إلا من ومضات نادرة متباعدة تلوح من خلال الخدر. فالغاوي يحصل على أثر من المرأة مثل "براق سن" أو "فاه عسالي" أو "رطب عسالي" أو "لهيجو حالي" أو "نور فاطر" أو يخترعها. وهذا الاختراع هو الذي يجعل الحقيبة ظاهرة لغوية تستمني. وهذا الذي أبقى الحقيبة فينا فناً معاصراً فهي فطرة وغريزة. إنها سير خطر على الحافة الخطرة. إنها اللغة ترتد إلينا كرتين. من بين اصوات منكرة في السياسة، ولغو في الشره، يخرج السعداء منا بوديعة مثل صوت عابدة السخي مثل ثرثرة النيل بالموج وحفيف المانجو بالثمار. نتسلل بتلك الوديعة من المطار إلى المهاجر يصهل فيها صوت ندي بالعشق والغي والوطن: برضو بقول راجيك وبحلم أصلو بريدك كده بالواضح كدا بالواضح
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة