يا إلهي كم لبثنا من السنين ونحن نرزح تحت وطأة سنابك خيول المغول؟ كأن الذي حدث بالأمس هو نفسه الكائن اليوم، بكل ملامحه وصفاته وتفاصيله. كان ذلك في العام 1984 ولا أدري ما إذا كان أوله أو نصفه أو آخره. فما جدوى التواريخ ما دامت الطواغيت نفسها تجثم على صدورنا؟ جاءتنا في ذاك العام فاطمة أحمد إبراهيم زائرة الكويت. يتقدمها شموخها وكبرياؤها وعزتها، بعد درس قاسٍ لقنته لنظام الرئيس المخلوع نميري، ممثلاً في القاضي فؤاد الأمين، والذي مثُلت أمامه في ما سُمي (المحاكم الناجزة) إحدى بدع ضلالة الهوس الديني، التي كانت تجلد وتقطع من خلاف وتعدم كما في حالة شهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه. ولما عجز القاضي المشار إليه عن إسكاتها وهي تندد بالنظام الديكتاتوري وحاكمه الفرد في القاعة، وعندما رأى تفاعل الحاضرون معها، لم يجد في نفسه حرجاً من اتهامها بالجنون ليطلق سراحها. بل لم يجد النظام بداً في السماح لها بمغادرة الوطن، ظناً منه أنه سيغمض له جفن. (2) استقبلناها كما يُستقبل الأبطال، ثلة من الذين نذروا أنفسهم في مناهضة الديكتاتورية الثانية. اقتنصنا أجواء الحريات التي كانت تنعم بها الكويت، ومؤزارة بعض نخبها من الديمقراطيين لقضية الشعب السوداني، أحمد الربعي، سامي المنيس، عامر التميمي، جاسم المطوع، أحمد الديين، أحمد النفيسي، سعود العنزي، ناصر الفرج.. والقائمة تطول. كان الحماس طاغياً، والروح المعنوية عالية، وقناعة راسخة تسري بيننا تنبئنا بدنو أفول نجم ديكتاتورية الفرد، والذي وقع آنذاك في شباك من أسماهم فيما بعد (إخوان الشيطان) وظن أنهم منجوه من عذاب واقع، في حين لم يزيدوه إلا خبالاً. (3) أحطنا بفاطمة كما يحيط السوار بالمعصم، خليط من الشيوعيين والديمقراطيين، كان بيننا آنذاك مصطفى خوجلي، وهو رجل إذا جالسته تحسبه أحد العشرة المبشرين بالجنة. احتفينا بفاطمة، كنا ننقلها من فنن إلى فنن كعصفور حطَّ رحاله على شجرة وارفة بحب الوطن. نساء ورجال آمنوا بقضية شعبهم وحملوها هماً مقيماً. عمر الخير، موسى بتنوني، منصور نصيف، محمد عثمان طه، بدر الدين حسن علي، سُليمى يوسف، علي عبد القيوم، حسونة الناطق، محمد عبد الماجد، حورية حاكم، عبد الحميد أحمد سليم، أحمد شريف، ميرغني الأمين، عباس عبد الكريم، عبد الحليم عيسى، طه أمير، حسن طه، فتحية فضل، الزين بدوي.. وتطول القائمة أيضاً بأمثلة ليست حصراً، مضى منهم من مضى إلى رحاب ربه، ولم يكن الأحياء يظنون أن ديكتاتورية ثالثة سترث بلادنا، وهي أشد وطئاً وأسوأ سيرة. (3) كان الشعر ملاذي آنذاك، إذ ألهمتني تلك الصورة الزاهية قصيدة، أهديتها إلى فاطمة وألقيتها على مسامعها، وصقعت حينما رأيت الدموع تنهمل من مآقيها كما المطر، وظلَّت كذلك حتى أشفقنا عليها جميعاً. كانت تلك هي المرة الأولى التي أرى فيها دموع فاطمة، ولم يخطر ببالي مطلقاً أن هذه الدموع ستلازمها طول عمرها، إن أقبلت عليها بكت وإن أدبرت عنها بكت، وطفقت على هذا الحال إلى أن انتقلت روحها إلى بارئها. كنت قد شبهتها في تلك القصيدة بزرقاء اليمامة، وهي تتأمل وتطيل النظر في المستقبل، لترينا إلى حال نحن مقبلون. قُلت أُنظري يا فاطمة ماذا ترين في الأفق قالت أرى شجراً يسير قلت أُنظري يا فاطمة ماذا ترين في الأفق قالت أرى جمراً يسير قلت أُنظري يا فاطمة ماذا ترين في الأفق قالت أرى شعباً يسير ثمَّ فجأة كفكفت دموعها وأرهفت السمع ملياً عندما وصلت لقراءة مقطع آخر في القصيدة يقول: يا شفيع الأمة قمْ تا الله ما قتلوك ولكن قتلوا الجسد المُسجى بدموع الكادحين يا شفيع الأمة قمْ تا الله ما صلبوك ولكن صلبوا الحلم الذي توارى خلف طيات السنين يا شفيع الأمة قمْ فالبؤس ما يزال رازحاً في مسامات الفقراء.... (4) للأسف ضاعت تلك القصيدة كما ضاعت أشياء كثيرة. ولكن عندما اندلعت الانتفاضة المؤودة التي حطمت قلعة الديكتاتورية الثانية. لم أكترث كثيراً لضياعها، بل لم أكترث للشعر كله والذي هجرته دون رجعه، فلعل الذي حدث بعدئذ بات أوسع من القصيد وأضيق من العبارة. جاءت الانتفاضة تحمل أثقالها فتكالب عليها خفافيش الظلام، ولم يكن ثمة مفر من السير في الطريق الوعر رغم وعثاء السفر. خاضت فاطمة انتخاباتها ولكن المتربصين لم يدعوها تعيد سيرتها الأولى، فأوصدوا أمامها السبل حتى لا يصدح مغنينا عن الصوت الذي زار بالأمس خياله (إنه صوتي أنا زاده العلم سنا) فمن ذا الذي يسمح لفاطمة أن تعيد دورة الزمن بصولات وجولات وضعت بصماتها في التاريخ البرلماني السوداني؟ (5) بينما الشعب المغلوب على أمره يشاهد فصولاً من التراجيديا الإغريقية - محدقاً في السماء لعلها تمطر علينا ديمقراطية مبرأة من العيوب - طاف علينا هادم اللذات بكل حمولته الأيدولوجية، فمضت فاطمة في رسالتها كما طرفة ابن العبد في قومه، إذ خالت كأننا عنيناها (فلم تكسل ولم تتبلد) سارت في طريقها لا تلوي على شيء، تحمل هموم الشعب السوداني كيفما أتفق. بعدئذٍ كان قد إلتأم في توابع تلك المسيرة شمل القوى السياسية في إطار التجمع الوطني الديمقراطي، وهو بقناعاتنا كان أنسب صيغة جمعت القوى السودانية في تاريخها السياسي، ولكن فاطمة وحدها نبهتنا أن تلك الصيغة المُثلى ذكورية الهوية، وذلك مما يأباه هواها، فباتت تطرق أبوابه مراراً وتكراراً دون أن يكل متنها! (6) بعد أن أعياها طول السفر، رأت أن تطرق باباً آخر تهواه، في إحدى زياراتها للعاصمة أسمرا، طلبت أن تزور ما أصطلح على تسميته (المناطق المحررة) في الجبهة الشرقية، أي جبهة النزال العسكري مع النظام. وهناك التقت (المقاتلين) الذين يتحدث أصحاب المقاعد الوثيرة في الصالات المغلقة باسمهم. انفعلت كعادتها عندما رأت مشهد القابضين على السلاح وجمر القضية، فخاطبتهم بلغة لا يطيق لها أولئك ذكراً. فلم تتردد في ذكر ما ظلَّ يسيطر على قناعاتها دهراً، وقالت عبارتها التي سارت بها الركبان (يشموها قدحه) وكانت تعني أن بعض الذين تحكَّموا في مصائر أهل السودان وأوصدوا أمامها الطرق للجلوس معهم، لن يستطيعوا تكرار التاريخ! (7) بالطبع لم يكن متوقعاً أن تقع تلك العبارة برداً وسلاماً على نفوس المعنيين بها. وعلى رأس هؤلاء كان رئيس التجمع الوطني الديمقراطي السيد محمد عثمان الميرغني، ومبارك الفاضل الأمين العام للتجمع ممثلاً لحزب الأمة، وإن كان الأول يميل إلى الكتمان في مداراة أموره، فإن الثاني على العكس هيأت له الأحداث ما يحبه حد الإدمان، وهو صناعة المعارك الدونكوشتية، فسار في طريقها كما يسير (البلدوزر) في الحطام وهو اللقب الذي به يسعد. فبذلا جهداً مضاعفاً في إحكام الحصار على دخول فاطمة إلى أروقة التجمع. والجدير بالذكر كانت تلك هي القضية الوحيدة التي شهدت تحالف الغريمين (الأعدقاء) بعد ما ظلا على تنافر منذ ولادتهما، وإلى سحابة يومنا هذا! (8) تزامن ذلك الحدث مع اجتماع لهيئة قيادة التجمع الوطني في العاصمة أسمرا، والذي انعقد في إحدى قاعات أرض المعارض الإريترية (إكسبو) ويومذاك شدد الغريمان على السلطات الإريترية عدم دخول فاطمة. جئت ومعي زميلنا الراحل زين العابدين أحمد محمد، وفوجئت بوجودها أمام البوابة والحرس الإرتيري يرفض دخولها. هزنا المنظر الذي تستحي منه العيون، فآثرنا البقاء إلى جوارها بغية أن نبدد عنها ظلم وظلمة ما حدث، وهي بطبعها ترجونا الدخول. ولكن قلنا لها لن نبارح مكاننا هذا إلا معك. وطال الأنس بيننا حتى شعرنا حقاً بتبدد وحشتها! (9) كان يطل علينا الأستاذ التيجاني الطيب بين الفينة والأخرى، ويحادثها لبعض الوقت ثمَّ يعود للقاعة. لم أر الرجل الوقور بمثل الحال الذي رأيته عليه يومذاك، وهو موزع بين أمرين. كان ينقل لها الحلول التي يتداولها المجتمعون، أو إن شئت فقل المساومات التي كانت تجري داخل القاعة. وعلمنا من فاطمة أن المعنيين بالأمر اشترطوا عليها أن تأتي بشخصها وتقدم اعتذاراً لهم وقد رفضت ذلك. ثمَّ بعد لأي شديد وجهد جهيد، تفتق ذهن البعض عن أن يكون الاعتذار كتابة ثمَّ توقع عليه. وهو ما حدث فيما بعد، ولكن بعد أن أرخى الليل سدوله، اقترحنا عليها أن تعود لفندق (نيالا) حيث تقيم، والصباح رباح. ولكن الحقيقة أتى الصباح بلا رباح. ثمَّ جرت مياه كثيرة تحت الجسر، ظلّ خلالها التجمع الوطني الديمقراطي ذكورياً من المهد إلى اللحد. بينما ظلَّت فاطمة تحمل هموم الشعب السوداني إلى أن أقعدها الكِبر، وأنشبت المنية أظفارها في الجسد النحيل من قبل أن تحقق أحلامها التي نذرت لها عمراً. وليت المنية وحدها فقد أنشب الانتهازيون والظلاميون والذين في قلوبهم مرض، أقلامهم المأجورة في السيرة العطرة! (10) سألني بعض الأصدقاء عن سر الضحكة التي تبدو لكلينا من الأعماق، وذلك في صورة تاريخية جمعتنا معاً وظهرت في الأسافير. وفي الواقع برغم تقادم السنين ما زلت أذكر مبعثها. يومذاك كنا في أنس شفيف، سألتني فاطمة قائلة: يا فتحي لما اتقابلنا قبل سنين طويلة في الكويت، سألت الزملاء الشيوعيين، قالوا لي إنك ما شيوعي ومنتمي للديمقراطيين، أها أسه أنت وين؟ فقلت لها يا خالتي فاطنة، الحقيقة إلى الآن ما عندي إنتماء سياسي إلا للوطن، ولا أظن حيكون عندي، لكن ممكن تقولي عليّ أسه إنه أنا شيوعي جناح أم جكو. فضحكت وضحكت معها كما لم نضحك من قبل. وقالت بعد أن تنهدت كعادتها: استغفر الله.. والله أخير ليك. أما أنا يكفيني خالتي فاطنة دي من خشمك! آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية ولو طال السفر!! [email protected]
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة