لعل أجمل ما شدني في سيرة المرحومة فاطمة أحمد ابراهيم هو قدرتها على أن تعيش وفق ما تريد هي لا وفق ما يريده الأخرون، سواء كان الأخرون عشيرتها الأقربين أو رجال منطقتها أو زعماء قبيلتها أو قيادات حزبها أو بني وطنها. بل مضت أكثر من ذلك وهي تتفوق في عدة مجالات بقدرتها الفائقة على اعطاء كل ذي حق حقه، فللعادات السمحة حقها وللدين حقه وللقيادات والزاعمات حقها وللسياسة حقها وللمرأة حقها وللرجل أيضا حقه. فكان من الطبيعي أن تصيب قدرا كبيرا من النجاح في معية شئ من التعثر أحيانا وتلك سمة هذه الفانية، فمن من الناس تصفو مشاربه؟ على زعم بشار بن برد. ولك – أيها القارئ الكريم- أن تعجب مثلى أشد العجب على جرأة تلك المرأة في أن تخط لنفسها نهجا متفردا في زمان كانت فيه المرأة بلا صوت ولا حراك: تبقى حيث طلب منها البقاء وترحل حيثما كانت وجهة ولي أمرها وترتدي ما طلب منها أن تلبس من يونيفورم، وفوق هذا وذاك مطلوب منها الخنوع وإن بقيت محرومة من أبسط حقوقها الأدمية كحق التعليم وحق اختيار الزوج بل وربما ظلت لأعوام طويلة محرومة عند البعض حتى من حق العلاج في المشافي العامة. وللانصاف نزعم أن جمهرة من الرجال أيضا كانوا مسلوبي الارادة في ذلك الزمان وكانت حركاتهم وسكناتهم أقرب لحركة القطيع الخاضع تماما لأعراف أو تقاليد نسجها زعيم قبيلة أو شيخ حي أو إمام طائفة وأضحى الخروج عليها ضربا من المخاطرة التي لا يقوى عليها إلا أولو العزم من الرجال، فكيف لإمرأة أشاعوا عنها أنها "لا تشق الرأس لو كانت فأسا" أن تواجه الاعصار المجتمعي بل وتطوعه لصالح النساء في زمان توارى فيه شاعر سوداني كبير خجلا من هوان البعض أمام المستعمر فدعى عليهم بدعوته المشهورة " ليت اللحى كانت حشيشا *** فتعلفها خيول الانجليز". ترعرت المرحومة فاطمة في قرية محافظة ولم يمنعها ذلك من تلبية عشقها للتحصيل الأكاديمي- في وقت كان خروج البنت من بيت أبيها بغرض التعليم الدنيوي عورة- فتبوأت موقعا متقدما في سلم التعليم وفق معايير تلك الفترة. والتزمت بفرائض دينها في بيئة دينية شديدة التدين ولم يمنعها ذلك من أن تنتمي للحزب الشيوعي في زمان كان العامة يعتبرون الشيوعية مرادفة للفسوق والتحلل فكانت وهي الشيوعية مذهبا والسودانية خلقا قمة في الاحتشام بشقيه الظاهري والمعنوي. وكذلك قاتلت من أجل مكتسبات المرأة سلوكا وتشريعا في زمان كانت فيه السيادة المطلقة للرجل وطرقت باب الصحافة ولم يزدها عزوف الرجال عن مسايرتها فيما تصبو إليه إلا صمودا على الصدع بحقوق المرأة من خلال تحرير صحيفة مختصة بشئون المرأة، كذلك شاركت في حملات التوعية ولم يمنعها جبروت زعماء القبائل والشيوخ من الجلوس اليهم وطلب مساعدتهم في غير ما يشتهون!!! والأعجب من كل ذلك خروجها على الحزب الذي تبوأت فيه مقعد القيادة المركزية لسنوات عدة عندما كانت وجهتها غير وجهة الحزب. حدث كل ذلك بدون عداوات شخصية ولا رغبة في تحطيم الأخر ولا لهث وراء مكاسب الفانية. وعليه كان من الطبيعي أن يختلف الناس حول حياتها ومماتها اختلافا كبيرا بينما يتفقون على مزاياها جملة وتفصيلا، وتلك سمة التفرد وخاصيتها لكل من عاش وفق قناعته الشخصية بلا اكراه ولا اتباع أعمى لما ألفى عليه إباءه. فانظر - يارعاك الله- الى العالمية التي تبوأها الطيب صالح بسودانيته وعزوفه أن يبقى مسخا مشوها للبريطانيين رغم طول بقائه في بلاد الفرنج وسكونه لامرأة من بلاد لم تغب عنها الشمس قرونا طويلة، وقارن ذلك الشموخ والعلو بحال من أتعبوا أنفسهم لهثا وراء القطيع بشقيه المحلي والاجنبي، ولعلنا في حل من أن نسوق أمثلة أو نسمي أشخاصا بعينهم لأن الأمثلة من الكثرة التي تغني عن السرد. ورغم الفاجعة برحيل فاطمة السمحة إلا أن السواد الأعظم استبشروا خيرا لهذا الوطن بعدما هبت نسائم التوحد من بعد فرقة وقطيعة وما تلى ذلك من اجماع حول شخصيتها، فلا عجب أن تقاطرت وفود المعزين وتواترت بيانات نعيها ونشطت وسائط التواصل الاجتماعي في سرد مناقبها بصورة قل نظيرها في زماننا هذا. وكعادة السياسة في افساد كل ما هو جميل أبت الحزبية إلا أن تطل باعناقها في يوم له قدسيته وخصوصيته، وانقسم الساسة فسطاطين كل يلعن أخاه ويمجد فعله، ولو أمعنوا النظر في عظم المصيبة أو اقتفوا أثر الفقيدة من بعد تمحيص لسيرتها لتركوا الغالبية العظمي تقوم بواجبها الأخير في وداع الفقيدة بعيدا عن السياسة والمتاجرة بجثمانها .... وليتكم أيها الساسة- المصطفين يمينا أو يسارا- خلعتم لباس الحزبية والصلاة مقامة على جثمانها أو حين رفعتم أكف الضراعة في سرادق العزاء. ولكم الحق كل الحق من بعد ذلك في حشد الناس زرافات ووحدانا، يمينا أو يسارا تحت راياتكم الحزبية بغية البكاء عليها بألوانكم وألسنتكم المختلفة وبالطريقة التي تريدونها. أما خلط الأوراق بغرض التكسب من وراء مصيبة الموت فذاك لم يكن من ديدن الفقيدة كما أطلنا السرد في صدرهذا المقال بل على النقيض من ذلك تجسد شعارها الرائع في اعطاء كل مجال حقه زمانا ومكانا. لقد عاش جيلي في زمان الساسة الكبار الذين انتموا للوطن أكثر من انتمائهم لحزبهم أو قبيلتهم فكان السودان قبلة القارة ورأس الرمح في التطور، وها نحن اليوم شهود على زمان اختلط فيه حابل الحكومة بنابل المعارضة فصيرونا أكثر شعوب العالم ثرثرة فيما لا يجدي وأقل الشعوب احترافا للتخصص وأدناها تقديرا للعلم والعلماء ظنا منا بأننا وببساطة شديدة تعلوها سذاجة أعرف الناس بشتى مناحي الحياة من سياسة ورياضة ودين واقتصاد وهلمجرا. رحم الله الفقيدة ورفع درجتها بقدر ما رفعت من مقام المرأة السودانية علما وتدينا وسلوكا وتشريعا وسعيا للخير ورحمها ثانية وثالثة بقدر ما أسمهت في رفع الوعي باهمية التخصص وعدم اصدار الأحكام العامة على الناس بل اعطاء كل ذي حق حقه، وما أحوجنا في أن نسلك ذلك المسلك في التعاطي مع بعضنا البعض وتحضرني هنا قصة مؤثرة عميقة الدلالة أردت أن أختم بها مقالي. كانت مدينتنا من أكثر مدن السودان أمنا في زمان مضى وذلك قبل أن تغشاها غاشية التعدين الأهلي. ومن أعظم دلائل أمنها أنها ولعدة عقود ما عرفت لصا من أهلها إلا شخصا واحدا رأت العدالة أن تختار له سجنا في المنفى وتحديدا في مدينة الدامر والتي تبعد مئات الكيلو مترات عن وطنه الأم وذلك بعد أن ادانته في حادث سرقة وقضت بسجنه ثلاث سنوات. في تلك الفترة كنا نقيم في مدينة شندي وفي فجر يوم بارد وفي ساعة باكرة وعلى غير العادة طرق طارق باب منزلنا وتعوذنا من الطارق في تلك الساعة، لكن ذلك التعوذ سرعان ما تحول لاعجاب عندما شاهدنا ذلك اللص يلج من الباب رافعا يده بالفاتحة ومعزيا والدي في شقيقه الذي رحل قبل أكثر من عام. لقد خرج لتوه من السجن بلا متاع ولا مال واستغل القطار راكبا في السطح، مخاطرا بحياته قاصدا دارنا راجلا رغم طول المسافة بين محطة القطار والدار وجل اهتماماته القيام بالواجبات الاجتماعية التي حرم منها في فترة سلب حريته. كم كان السودان جميلا بأهله وقيمه وموراده وسيظل كذلك إن نحن سيرنا بسيرة الفقيدة والرعيل الأول من الساسة الكرام.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة