وبعد أن قارب ثبات وإستقرار سعر صرف الجنيه السوداني أمام الدولار (نسبياً) الثلاثة أشهر تقريباً منذ تفعيل الإجراءات الإصلاحية الإقتصادية الأخيرة والتي كان آخرها رفع الدعم الكُلي عن الوقود ، لم تزل أسعار المواد الإستهلاكية والضرورية ترتفع بذات التواتر والفعالية التي كانت عليها وقتما كان معظم التُّجار يتحجَّجون بإرتفاع الدولار ، وبعد إنتهاء تأثير (آخر المُبرِّرات) لإرتفاع أسعار السلع الإستهلاكية بما فيها اللحوم والألبان ومٌشتقاتها وحتى الخضروات والمُتعلِّق بإرتفاع تكلفة الترحيل ، وإعتبارنا لتلك الزيادة (آخر المحطات) التي تقف عندها تبريرات التجار ، آملين أيضاً في حدوث إستقرار ولو (نسبي) على الأقل في أسعار السلع التي لا تحتوي مدخلات إنتاجها على كثير علاقة بسعر الصرف الأجنبي ، تفاجأ المغلوبون على أمرهم من عامة ابناء هذا الشعب الكادح في الإسبوعين الماضيين من شهر أغسطس الحالي بإرتفاع غير مسبوق في كثيرٍ من السلع المُنتجة محلياً ، مما يطرح سؤلاً هاماً يتعلَق بمدى إستفادة المواطن من تلك الإصلاحات ، فضلاً عن مستويات تأثيرها على الأسواق وفق ما تم تخطيطهُ من (مكاسب) متوقَّعة لتلك الإجراءات الإصلاحية القاسية التي لم يدفع ثمنها سوى ذات المواطن المُنهك ؟.
على الحكومة الإنتقالية مُمثلة في جهات الإختصاص المنوط بها مراقبة الأسواق وضبط الأسعار ، أن تعي مبدئياً أن تطبيق نظام الإقتصاد الحُر الذي يُقر ضبط الأسعار عبر آلية (المنافسة) والعرض والطلب ، في بلادٍ أنهك حكومتها ضعف الميزانيات وهشاشة البنية الإدارية والرقابية ، ومواطن تجاوز تدهور مستواهُ المعيشي أسافل معايير الفقر المعتمدة دولياً ، سوف لن يُنتج تطبيقهُ في هذه البيئة المُتأزِّمة سوى الإفقار المتواتِر للمواطن ، والإتساع غير المسبوق لدائرة الجشع المُستشري في الأسواق ، وعليها أن تعي أيضاً أنهُ وفي ظل هذه الفوضى الإقتصادية التي يُنتهك فيها حق المواطن في الحصول على أبسط ضرورياته بكرامة ، أن الإعتماد على المنافسة والعرض والطلب بلا رقابة ولا مُتابعة لصيقة بمجريات حركة الأسواق و(سلسلة الوسطاء) الطفيلية التي تتكسَّب جوراً وبُهتاناً حتى وصول السلعة للمواطن ، يُعتبر مُجرَّد محاولة للحرث في سطح البحر ، لأن الخسارة عبر هذا التهاون ستكون خسارتين ، أولاهما ما يُهدر من أموال طائلة لتمويل منظومات رقابية على الأسواق غير فاعلة ولا تأثير لوجودها ، وثانيهما ، إستمرار (تطوُّر وتواتُّر) نمو منظومة الجشع التجاري التي يُسيطر عليها السماسرة والوسطاء دون وازع ضمير ولا إعتداد بضوابط شرعية أو قانونية أو حتى عُرفية وأخلاقية.
على الجهات المعنية وفي مُقدمتها عناصر الأمن الإقتصادي على المستوى الرسمي وجمعية حماية المستهلك على مستوى منظمات المجتمع المدني ، الإلحاح في مطالبة وزارة التجارة بالوفاء بوعدها الذي قطعتهُ قبل أربعة أشهر تقريباً والمُتعلِّق بعزمها على تحديد أسعار 10 سلع أساسية وضرورية ، تُحسب تكلفتها عبر آلية يبدأ عملها من متابعة سلسلة وصولها إلى المُستهلك من مصادر الإنتاج الأساسية وحتى تاجر التجزئة ، وفي ذات الوقت ستؤدي هذه المُتابعة إلى القضاء على ظاهرة (العطالة المُقنَّعة) التي تتخَّفى خلف ستار مهنة هامشية تُسمى السمسرة والوساطة التجارية في عمليات تجارية لاتحتمل المُزايدة عبر رفع تكاليفها بوساطات خدمية (وهمية) تُثقل كاهل المواطن وتعمل على إفشال مجهودات الدولة في الإصلاح ، وإن كان الحديث جاداً عن رفع مستوى الإنتاج الوطني العام ، على الحكومة أن تدلُف إلى مُستنقع ظاهرة إمتهان السمسرة لمئات الآلاف من العطالى الوالجين في مغبة حق المواطن في الحصول على ضرورياته المعيشية بأسعار مُناسبة ، وليقتصر دور السمسرة كمهنة خدمية في التعاملات التجارية المتوسطة والكبرى والبعيدة عن قوت المواطن وإحتياجاته اليومية المتواضعة والبسيطة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة