أفق بعيد يمثل قرار الرفع الجزئي للعُقُوبات الأمريكية عن السودان نصراً سياسياً ومعنوياً واقتصادياً للحكومة السودانية، ويمثل أيضاً فُرصة ذهبية لها لتجاوز كثير من المشاكل والعقبات نحو توافق سياسي جديد. قد تجد الحكومة السودانية نفسها في موقع المُنتصر النهائي بحيث لا تحتاج لتغيير سياساتها الداخلية، وقد تقرأ فيه موقفاً قابلاً لمزيدٍ من التطور مع بعض التنازلات الداخلية. هذا القرار يَشمل التعاملات البنكية والتحويلات المصرفية، ويفك تجميد الأرصدة السودانية، ولا يشمل العُقُوبات المفروضة بقانون سلام السودان، وكذلك وضع السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب. رغم هذا سَيكون له أثرٌ سياسيٌّ واقتصاديٌّ كبيرٌ، لا يصح التقليل منه، كما لا يصح تضخيم الأمور والقول بأنّ القرار سَيُحوِّل بلادنا إلى جنة، يخفض سعر الدولار ويرفع قيمة الجنيه ويحل الضائقة الاقتصادية في السودان. ستسهل عملية التبادل التجاري والتحويلات البنكية، وسيستفيد الأفراد والشركات من ذلك، كما سيعم القرار تعاملات البنوك الأوروبية والعربية التي كَانَت تتشدّد في التعامل مع المصارف السودانية خوفاً من سيف العُقُوبات والغرامات المالية الباهظة التي تفرضها عليها الحكومة الأمريكية. من جانب آخر سيرفع الغطاء عن الأسباب الحقيقية التي تقعد بالاقتصاد السوداني، حيث كانت العُقُوبات تتخذ سبباً لتبرير فشل السياسات، ويتيح فُرصة ذهبية لمُواجهة المشكلات كما هي دون تزويق أو مكياج. مُشكلتنا الأساسية في غياب السياسات الداعمة لعملية الإنتاج الزراعي والصناعي، وارتفاع سقف الواردات مع قلة الصادرات، وغياب مُحفِّزات التصدير. هناك جانبٌ سياسيٌّ مُهمٌ يجب ألاّ ينساه الناس، فمُبرِّرات رفع العُقُوبات تتعلّق كلها بالتعامل مع العالم الخارجي في مجالات مُكافحة الإرهاب ووقف سيل الهجرة غير الشرعية لأوروبا والتعامل الأمني، وما تعلّق منها بالداخل شمل وقف العدائيات في دارفور والمنطقتين وتسهيل انسياب المعونات الغذائية وتسهيل أمر تحرك المنظمات الأجنبية. أمّا الأوضاع في الداخل فلم ترد ضمن المُبرِّرات، وإنما يُمكن الفهم بأنّها تُخضع لفترة الاختبار التي سَتستغرق ستة أشهر، يُفترض أن تحسن خلالها الحكومة سِجلَها في مجال حُقُوق الإنسان والحُريات العَامّة. وَقَد يَبدو غَريباً أنّه وبعد يومٍ واحدٍ مَنعت الحكومة سفر بعض قيادات المُعارضة لباريس، لكن يُمكن تفسير ذلك بأنّ الحكومة ترى أنّ أمريكا مُهتمة بقضايا معيّنة تَمّ التفاهم فيها، وأنّها غير مُهتمة حقيقةً بالأوضاع الداخلية، وما وَرَدَ في القرار هو مجرد مُحاولة لتحسين وجه العم سام، لكنه لن يكون أساسياً في تسهيل التعامل بين البلدين. هذا على الأقل هو فهم الحكومة، لكنها لا يُمكن أن تكون قد تصوّرته من فراغ، وإنما من خلال الحوارات التي دارت وتقييم الأولويات الأمريكية. ومن السذاجة بمكان تصور أن أمريكا يمكن أن تتراجع عن هذا القرار ولو بعد ستة أشهر، نتيجة لقراءتها تطور الأوضاع في الداخل. بالنسبة للإدارة الأمريكية الجديدة تحت قيادة دونالد ترامب، فليس متوقعاً أن يكون السودان على أعلى سلم اهتماماتها، لذلك حتى لو كان لديه موقف مختلف فليس معقولاً أن يبدأ به عهده الجديد، سينتظر السودان شهوراً طويلة، قد تصل للعام، حتى نعرف كيف يفكر ترامب فيما يتعلق بهذا القطر الهامشي في الاستراتيجية الأمريكية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة