ذكر الدكتور النور حمد في سياق التمثيل لنظريته عن "الأنسية والوحشية" تهافت الإمبراطورية الرومانية بهجمات جحافل الشعب الجرماني في عام 476 م وهدم ثورة مهدي السوداني لدولة الخديوية العثمانية المصرية في 1881. وجاء ذكره للحدثين في معرض براهينه أن وحشية البادية وهدمها لأنسية الحضارة قديمة ولا تقتصر على ناس دون ناس. وصدف أن عرض فردريك إنجلز، قسيم ماركس في تنشئة الماركسية، للواقعتين أيضاً. وسنرى في عرضنا لمقالة الأكاديمي الغربي نكولاس هوبكنز (التي وثقنا لها في كلمتنا الماضية) خلافاً بين النور وإنجلز معروفاً في النظر إلى التاريخ. فالنور على مبدأ المثالية الذي يرى أن أصل النزاع في تدافع الناس راجع إلى صراع الأفكار والقيم. فالبادية عنده تعيش على قيم راسخة في التوحش والفوضى تتربص بالحضر (المدنية، الحداثة) حاضن قيم العدالة. ومثالية النور مانوية (من ماني رجل الدين الفارسي للقرن الثالث الميلادي الذي اعتقد بأن مبعث حركة العالم هو الصراع الدرامي الأزلي بين الخير والشر إلى أبد الدهر). وبالطبع فالمانوية هي الصورة المتطرفة من الفكر المثالي. فالقيم في المانوية لا تتصارع فحسب بل إنها تفعل ذلك بصورة ازلية إلى نهاية الدنيا. ومن فضول القول بالطبع أن إنجلز مادي يرد قيم النور المتصارعة في الأنسية والوحشية إلى أساسها المادي في تدافع الناس لكسب العيش. وكهامش عن مثالية التفكير وماديته أضرب مثلاً من دارفور. فقد نظر كثير من الناس إلى الصراع الأخير فيها كصراع هويات بين العرب والأفارقة. وخاضا في ذلك خوضاً بشعاً لم نبلغ الغاية منه بعد. وهذا من باب التفكير المثالي وسميته "نهج الجنجويد" في كتابي "أصيل الماركسية". أما النظر المادي للمسألة ففي قولي، ناظراً إلى الأساس المادي للنزاع، إنه صراع حول موارد الأرض وسميته ب"نهج الحاكورة". وهذا تخطيط عام لخصومة الأفكار والواقع لم نتطرق فيه إلى جدلهما المعقد. وما زلنا نقرأ أنه وجب لحل نزاع دارفور أن نتراضى على ميثاق حول نظم الحاكورة في مفوضية للأراضي تنشأ للغرض. نرجع إلى موضوعنا:
استعان النور كما رأينا بابن خلدون ليسند نظريته عن صدام الرعاة والحضر. فأخذ قوله عن توحش الرعاة في قفرهم وفلواتهم، ثم وثبتهم الفظة على الحضر، مدفوعين بجبلة الاستيلاء على حق الناس. وهم في هذا الإثم والعدوان مشدودون بالعصبية لبعضهم البعض. وعالج إنجلز هذه الدورة الإنسية الوحشية، في قول النور، بصورة نظر فيها إلى ابن خلدون في الراجح. وفي اطلاع إنجلز على ابن خلدون قولان. وكان إرنست قلنر، الأنثروبولوجي البريطاني للإسلام، هو من نوه بدين إنجلز لابن خلدون. والمتفق عليه أن إنجلز قرأ ابن خلدون إما من ترجمة فرنسية نشرت في 1868 (وهي التي كانت على قائمة قراءات ماركس عن الجزائر التي زارها للنقاهة في أوائل 1880)، أو هو قرأها من تراجم مختلفة نشرت في خلال القرن التاسع عشر في لغات أوربية عرفها. وقال هوبكنز إن إنجلز ربما ثمّن عمل ابن خلدون حتى لو لم يطلع عليه من فرط تقارب فكرهما. وسبب شغف إنجلز بمقدمة ابن خلدون في كونها نحت منحاً مادياً وضح في تركيزها على تأقلم الناس مع بيئاتهم. فقد قدّم ابن خلدون المعاش على تلقي العلوم. فالمعاش عنده ضروري طبيعي وتعلم العلم كمالي والطبيعي أقدم من الكمالي. وقال عن تقديم المعاش على ما عداه كلمة صريحة: "إعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم في المعاش فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه". ولابد أن ما استرعى انتباه إنجلز في المقدمة حسها بانتقال الناس من نظام اجتماعي إلى آخر. ونعرض من هنا إلى تفسير كل من النور وإنجلز لنهاية الإمبراطورية الرومانية ودولة الخديوية على يد ما سماه النور "هبات رعوية". فيرى النور في انقضاض الشعب الجرماني على الإمبراطورية الرومانية (التي اعترف بتحللها في أصيل عمرها) هبة رعوية لا مشروعية لها لأنها هبة الوحشية على الإنسية. ومن الجهة الأخرى تجد إنجلز يوطن وثبة الشعب الجرماني في الأساس المادي الذي جرى من فوقه ذلك الصراع الأنسي الوحشي. فقال إن الجرمانيين الرعاة كانوا قوماً على تخوم الإمبراطورية عانى الأمرين من جباياتها وقهرها. فتواثق لهدم روما حين دب فيها الهرم. واستثمر القوم في ذلك عصبية مشيدة على روابط القرابة بينهم، ونظام اجتماعي قائم على ديمقراطية الشورى البسيطة. وزاد إنجلز بقوله إنهم كانوا أطهاراً قياساً بالرومان مما يعني أن الأخيرين قد أصابهم الرجس والفسوق والفحش في وصف ابن خلدون للحاضرة. ثم أصاب الجرمانيون بعد تمكنهم من الإمبراطورية وتحضرهم ما أصاب الرومان من استغراق في اللذاذت، وظلم للرعاة في تخومهم، فوثب عليهم شعب النورس البربري من على الحدود وأطاح بهم كما فعلوا هم بالرومان. وهنا نرى سواء في إنجلز أو ابن خلدون متوالية تعاقب الأسر الحاكمة. والتعاقبية موضوع جوهري عند ابن خلدون. ومدارها حركة ذات حيوية فائقة ينهض بها بدو أو رعاة خُلّص من بلدهم القفر ليهلكوا دولة حضرية استغرقتها لذاذات التنعم. ثم ما يلبث ثوار البادية "البرابرة الظافرين" من الاستسلام لعادات الحضر المنعمين لينتظرهم الهلاك على يد برابرة متربصين أخر. ونظر كل من ابن خلدون وإنجلز في تفسير هذه الحركة إلى أساسها الاجتماعي وإن قالا بإن عصبية هذه الجماعة وحيويتها مما يتقوى بالدين. ونأتي بعد هذا إلى تعاطي كل من النور المثالي وإنجلز المادي مع المهدية السودانية. فقد سبق لنا قول النور بأنها هبة رعوية أطاحت بحداثة الخديوية التركية مهما كان الرأي في شدتها على السودانيين. أما إنجلز فقد رأى فيها ثأراً بدوياً على حاضرة فاسقة. فخلص من مقارنة عقدها بين ثورات البادية الأوربية (مثل انقضاض شعب الجرمانيين على الإمبراطورية الرومانية) وبين ثورات البادية العربية الإسلامية على طغاتها في الحضر إلى ما يلي:
(ونقيض هذه الهبات الدينية (الأوربية) العجيب هو الهبات الشبيهة لها في العالم المحمدي، وفي أفريقيا خاصة. فالإسلام دين تأقلم على أوضاع الشرقيين والعرب خاصة بمعنى موافقته للحضر المشتغلين بالتجارة والصناعة وللبدو الرعاة معاً. ومن هنا تخلق جنين الصدام المكرر بين رعاة البادية والحضر على فترات. فيثرى الحضر ويتقلبون في النعيم والترخص في الالتزام ب"القانون". وتجد من الجهة الأخرى البدو على حال الفقر ومن ثم التشدد في الأخلاق يتفكرون بحسد في ذلك الثراء الحضري والتنعم. فيعزمون على الاستئثار به دون أهله. فتتراص صفوفهم من وراء نبي، أي المهدي، لتطهير المرتدين، واسترداد لجام الشرع، وصحيح الدين، ولحيازة كنوز الحضر بمثابة تعويض لهم لردهم عن الغي والظلم إلى سواء السبيل. وما تمضي مائة عام حتى تكون الجماعة التي ردت الحضر الآبقين إلى صحيح الدين قد انتهت إلى التنعم والتبذل. وتنشأ حاجة أخرى إلى تنقية الدين من المفاسد، ويظهر مهدي جديد، لتبدأ الدورة من جديد. وهذه هي سيرة فتوح المرابطين والموحدين الأفارقة لإسبانيا إلى المهدي الأخير الذي ظفر بالإنجليز بالسودان. وجرى نفس الشيء أو مثيله بهبات في فارس وبلاد مسلمة أخرى. فكل هذه الهبات تزيأت بالدين ولكن منشأها في دوافع اقتصادية. غير أنه ما نجحت الواحدة منها حتى سمحت باستمرار الأوضاع الاقتصادية القديمة لم تمسها يد التغيير. ولذا يبقي الحال على حاله ويعيد الصدم نفسه دورياً. وهذا خلاف ما في هبات الغرب المسيحي الجماهيرية. فالزي الديني فيها مجرد لواء وقناع لتسديد الضربة إلى نظام اقتصادي خالف. ويسقط هذا النظام في النهاية ويقوم في مكانه نظام جديد ويطّرد التقدم). انتهى النص. ونرى بوضوح هنا تطابق افكار إنجلز وابن خلدون في ديناميكية هذه التعاقب في التاريخ. ويرد كلاهما نصر جفاة الإعراب إلى حيويتهم وعصبيتهم ورفض الانقياد والحرية. ونظر الرجلان لهذا التعاقب في إطار سعيهما لكتابة تاريخ عالمي يفسر تغير النظم والقيادات السياسية. وأولى كلاهما العوامل المادية، وتناصر الجماعة لكسب العيش الاعتبار المقدم في سلسلة ذلك التعاقب. وكان ذلك مدار أفكارهما السياسة والاجتماعية. وكان كل منهما على استعداد لإدخال عنصر الدين من جهة تراكيبه وافكاره ورموزه في تحليلهم لدورة التعاقب تلك كما تقدم. ولكن ما اختلف فيه إنجلز عن ابن خلدون هو في رأيه أن دورة التعاقب في الشرق هي غيرها في الغرب. فالدورة في الغرب تفضي إلى تطور في المجتمع وتغيره. وهذه هي التطورية (بمعنى مضي الإنسان قدماً من نظام إلى آخر جديد). فنهاية الرومان بيد الجرمانيين كانت بمثابة مجتمع قام على الرق. وكان صعود الجرمانيين بداية للنظام الاقطاعي ثم الرأسمالية. ولم يأت شعب النورس هادم لذات الجرمانيين بجديد. وهكذا تسير الدورة في الغرب صُعداً تغير نمطاً من الإنتاج بنمط آخر بينما تتحنط دورة التعاقب في الشرق وتعيد إنتاج نفسها. واضح أن إنجلز لم يسعد بابن خلدون من جهة مالآت الدورة التاريخية التي عالجهما كل منهما. فمنظوره تطوري يقع فيه التغيير التقدمي العلماني مطرداً. أما منظور ابن خلدون، في رأيه، فدائري يعيد النظام الخالف إنتاج العاقب وهكذا دواليك. ونقد قلنر الأنثروبولوجي فكرة إنجلز بقوله إنها اقتصرت على مقارنة تطورية الغرب بمكوث الشرق على ما هو عليه. وهو بهذا ابن بار لثقافته الأوربية التي اعتقدت دائماً في الفارق بين "شرق مجمد وغرب متطور". ومهما يكن فالواضح أن لصراع الإنسية والوحشية جذوراً مادية في الأرض اتفقت لابن خلدون وإنجلز معاً. وأما قول النور بأنه صدام أزلي بين قيم الحرية والفوضى من لدن سقوط روما إلى صعود دونالد ترمب فتطرف كبير في المثالية.
حاشية: كنت قرأت كلمة إنجلز عن جدل البادية والمدينة في بداية السبعينات ووجدت نفسي استلهمها في مسرحيتي "السكة الحديد قربت المسافات". فصورت غضبة القرية على زنا فضيل الراعي العربي ببنت القرية وقد اغواها بعبارته الطلقة الغزلة:
الفتاة لفضيل: كلماتك تغتصبني -لأنها تولد في سكون الفيافي المقفرة. ما يولد في الصمت له سطوة الفعل. كلماتنا تحاصر المدن الهتيكة بالبغض والإثرة والعقم. حين يغيض اليقين والخلق والنسل في المدن تنحدر كتائبنا المدججة بالكلمات. نبدل حذلقتها تقى. وإثرتها إيثاراً، وعقمها نسلاً صحيحاً وجديداً (يقودها إلى منعطف. تبدو كالمسحورة). الصحراء بعل المدن والقرى.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة