قديماً كان مفهوم الفراق و الوداع عند السفر ( واسعاً ) و أكثر سواداً و مأساوية ، لأن الغربة كانت تعني المرتبة الأدنى من الموت مباشرة فيما يتعلق بإنقطاع المسافر شبه الكُلي عن أهله و أحبائه وأوطانه ، أما الآن فقد أصبح الوداع حالة من الفرح ( الخفي ) و فيه نوع من المجاملة المشوبه باللهو و التسليه و أحياناً الإحتفال ، و في حفلات الوداع التي أصبحت ظاهرة منذ أمدٍ ليس ببعيد أصدق دليل على ( هامشية ) مضمون وداع أهالينا وأصدقائنا و معارفنا إذا ما قرَّروا السفر ، ومن أهم الأسباب التي أدت إلى ( تساهل ) الناس في التعبير عن حالتهم العاطفية إزاء وداع الأحبة ، ما طرأ مؤخراً من تطورات هائلة في وسائل ووسائط الإتصال ، فلم يعُد للخطاب المقروء مكانةً في قلوب الناس كما كان من قبل ، حيث كان الأهل و كذلك المهاجرين ينتظرون ساعي البريد على أحر من الجمر ، ليصلهم الخطاب البريدي الذي كان يستغرق وصوله إلى بعض بلدان العالم كالمملكة المغربية على سبيل المثال ما يقرب الـ 45 يوماً بالتمام والكمال ، و كان المغترب أو المهاجر إذا ما شد الرحال إلى غربته القصية إنقطعت أخباره بالسنين و كذلك تناءت عن أسماعه أخبار السودان وأهله ، وكنا كثيراً ما نسمع أصوات العويل و النحيب و البكاء في ساحة صالة الوصول بمطار الخرطوم ، حين كان يصل بعض المسافرين ليُبَّلغوا بوفاة أحد الأقربين قبل ذهابهم إلى البيت و إفتقادهم إياه , والذي قد تكون حدثت وفاته قبل شهور وأحياناً عاماً أو بعض عام ، ونفس الشيء ينطبق على حالة بعض القادمين الذين يجدون في إستقبالهم شباباً في دربهم نحو الرجولة و كانوا قد تركوهم أطفالا، أما في عالم اليوم فإن الغربة لا تكاد تطابق مضمونها السابق والمنحصر في حالة الفراق والبعد وإنقطاع الأخبار، فالإتصال الصوتي الذي أصبح في متناول اليد ولا يتطلب من المتصل الذهاب إلى دار الهاتف العمومي و الإنتظار ساعات حتى يتم تجميع الخطوط و قد لا يحالفك الحظ للحصول بغيتك في نفس اليوم ، أما حالياً فإتصالك على من يهمك أمره في الخارج يمكن أن يتم من داخل غرفتك وأنت مستلق ومضطجع ، أما وسائط التواصل الأخرى فأصبحت تتيح للمهاجر أو المغترب التواصل اليومي وعلى مدار اليوم بالصوت و الصورة و الرسائل المقروءة بالقدر الذي يجعله مشاركاُ حقيقياً و فعَّالاً في مجريات حياة أسرته و مجتمعه العلائقي و المهني و كأنه موجود ، فتواجده الفكري و العاطفي متواصل غير منقطع أما تواجده الحِسي فإنقطاعه ليس مطلقاً إذا إعتمدنا نسبية التواصل التي تحققها الصورالفوتوغرافية والفيديهات التي يمكن بكل سهولة وبساطة أن تنقله جسداً بين أحضان الأهل والأصدقاء والمعارف في ذات المكان والزمان اللذين يتواصل فيهما معهم ، ما سبق قصاصات عابرة من أفكار تثبت أن التكنولوجيا التي يصنعها الإنسان بيديه ، قادرة على سبر أغوار الكثير من المفاهيم و القوانين و الأعراف التي كنا نظنها يوماً ما مُطلقة وغير قابلة للتحوُّل ، كما أنها بلا شك قادرة على التأثير في الحراك السياسي والإجتماعي والأقتصادي والثقافي ، فالشعراء من المبدعين الذين حرّكتهم الغربة للكتابة عن الشوق و الحنين و الفراق ، ربما الآن تقل مستويات مشاعرهم العاطفية تجاه الشعور بالغربة لكثرة و فعالية التواصل مما يمكن أن يعكس شُحاً أو عزوفاً عن التداعي الإبداعي في مضامين و مفردات الشجن و الشوق .. الله أعلم .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة