|
|
 المكتبة السودانية :"جماليات الازمنة و الامكنة و الناس والكائنات في رومي البكري "
|
06:28 AM January, 18 2017 سودانيز اون لاين
adil amin-
مكتبتى
رابط مختصر قراءة في كتاب
"جماليات الازمنة و الامكنة و الناس والكائنات في رومي البكري " للدكتور/ عبدالشافي صديق
صفوان الشويطر
كثيرة هي الكتب المتشابهة في مواضيعها و قلة قليلة هي تلك الكتب التي تتناول موضوعا مألوفا بطريقة جديدة , و الكتاب الذي بين ايدينا أحدها .
الكتاب صدر هذا العام في السودان و يقع في 227 صفحة من القطع الكبير , و يعد باكورة الاعمال الغير اكاديمية للاب و المعلم الدكتور/عبدالشافي صديق ,واذا كانت القرية السودانية قد حضرت الى وعي القارىء اليمني والعربي عبر روايات الطيب صالح فانها تحضر في هذا الكتاب لتعمق و تلون وعينا بها لتكتمل لدينا ثنائية " الحكي / الاخبار " ل"جشتلت" القرية السودانية .
الكتاب , كما يقدمه الباحث فؤاد عكود :(غير مسبوق في مادته على ما اعلم , فلم يكتب احد من قبل عن الحياة الواقعية حول ضفتي النيل النوبي ), هو اذن كتاب يقدم صورة بانورامية لقرية رومي البكري – مسقط رأس الكاتب – من قرى دنقلا شمال السودان و عبر فترة زمنية تبدأ من خمسينات القرن الماضي و يبدو من العنوان ان زاوية التناول مختلفة عن المعتاد لانها لا تلتفت للتاريخ الرسمي المعني بالاحداث الكبرى او التحولات السياسية رغم ان الكاتب مؤرخ اكاديمي و لكنها زاوية نظر ترصد برهافة و عناية فائقة بالتفاصيل بيئة و مجتمع الريف السوداني في سياق يحيط بمختلف المكونات الثقافية و الوجدانية والاجتماعية حيث يتعرف القارىء على المأكولات و المشروبات المحلية , اللباس التقليدي,العادات و التقاليد , اساليب المعيشة , المعتقدات و الخبرات الشعبية , النمط المعماري , التراث الشفاهي من امثال وحكايات ...الخ .
اسلوبية الكتاب تقوم على النثر الفني الرفيع القادر على توظيف ادوات المؤرخ و عين الفنان و إلتقاطة السارد لتقدم نتاجا ثريا يوفر مادة جيدة للباحث الانثروبولوجي و السوسيولوجي و الاثنولوجي ,و ممتعا في طرحه المتعدد الرؤى و الطرائق فهو شكل خاص من التدوين الذي يستقطر مختلف فنون الكتابة .
وسيلة الكتاب في تجسيد تلك الفسيفساء الغنية للقرية السودانية هي المزج بين استدعاءات الذاكرة و ادب السيرة الذاتية مع عناصر سردية كالوصف و البورتريه السردي و القص و الحوار بالعامية الدارجة كما يفيد الكتاب في طريقه التبويب و عرض الفصول من اسلوب المادة التوثيقية , فيبدو ان الكاتب جعل من " الوثيقة " خلفية ثابتة لمجريات وسياقات النص المختلفة و هي ليست الوثيقة بالمفهوم الارشيفي و لكنها الوثيقة التي تقدم تجربة ذاتية في اطار صورة اكبر و مدى مكاني و زماني مخصوص.
يعتمد الكاتب على احساس المعايش و ادراك الملاحظ لذلك يتنقل بين الذات و الموضوع بحسب مقتضى الحال , فالمعايش يرتبط وجدانيا بما يعيشه فيعبر عن تجربته انطلاقا من الذات و اعتمالاتها بينما الملاحظ يحاول نقل صورة موضوعية عن الواقع لكنه ايضا لا يتخلى عن توحده بالموضوع بل يخفض قليلا من مستوى الذاتية حتى لا تكون رسالة الكتاب احادية الرؤية .
ينقسم الكتاب الى 4 فصول بحسب التقسيم الوارد في العنوان ( الزمان , المكان , الناس , الكائنات ) بحيث يكتمل ( مربع الجمال) من الاربعة الاضلاع المذكورة .الزمان و المكان -باعتبارهما اطار كل تجربة انسانية -يتفاعلان جدليا ضمن المحيط الاكبر لتفاعلات الذات و المجموع بالحياة .في العلوم الطبيعية تحدث اينشتاين عن الزمان – المكان او"الزمكان " باعتبار المادة بمختلف قوانينها تقوم على هندسة زمكانية , و في الفلسفة يضع كانت الزمان و المكان ضمن " المقولات الكانتية " التي تمثل العناصر البدئية لكل عملية ادراك او أي نشاط معرفي .( المكان زمان جامد و الزمان مكان سائل ) كما قال ابن عربي و الكاتب يستشف بوعي عميق حقيقة العلاقة بين الزمان و المكان اذ يورد في ص 232 من الكتاب :
(.. أم ترى أن الزمان ما هو الا عبق المكان ... و المكان جسد روحه الزمان .. فلا مكان خارج الزمان ... ترى أتتغير الامكنة أم تتغير الازمنة ؟... و أيهم أكثر إمعانا في تنقية الآمال و الأحلام و البهجة .)
يبدو واضحا من كلمة (جماليات)في عنوان الكتاب انطلاق الكاتب من تجربة ذاتية تتمثل في استحضار جماليات تلقاها منذ طفولته المبكرة في القرية و يحدد تلك الجماليات في العناصر الاربعة السالفة الذكر .و هو في كل فصل يوضح مكامن الجمال و ارتباطاتها بالمكان مدار الحديث و الذي هو هنا قرية رومي البكري . " الزمن الجميل " عبارة نسمعها كثيرا و توحي بأن الماضي اجمل من الحاضر لكن الكاتب هنا يشخص سر جمال ذلك الزمان (جمال الذات المطمئنة ) كما يقول :
(كان ابرز ما ميز ذاك الزمان الجميل يتجلى في الشعور المطلق بالامان و الاطمئنان..صحيح , لقد كان الحال رقيقا , و لكنه كان رقيقا بلا ادقاع,و رهيفا بلا رقاع , و محتملا بلا اوجاع ..لقد كان زمانا شفيفا بلا قيود,و محدودا بلا حدود...! ) ص 9.
جمال الزمان احساس وجداني و تجربة جوانية تستشعرها النفس و هي لكثافتها و شدتها تبقى اثيرة حيث ذكريات الصبا تجسد النقاء الاول و الفطرة السليمة التي يتماهى فيها الفرد مع محيطه الاجتماعي , متناغما مع الطبيعة و الناس من حوله الى الاحساس اليقظ بكل الموجودات و الكاتب في حديثه عن الزمن الجميل لا يقصد شكوى الدهر,و هو نسق ثقافي مهيمن , و لكنه يود الاشارة الى ذلك الزمان بوصفه جذرا راسخا للذاكرة الجمعية و جسرا يوصله بمجايليه من جهة و مع ابناء الاجيال المتعاقبة و علامة ذلك تخصيص جزءا لا بأس به للحديث عن التعليم في خمسينات القرن الماضي .
(الناس في بلدي , هم الجمال كله في البدء و المنتهى ,فما كان لزمان أن يطيب دونهم , و ما كان لمكان أن يطاق بغيرهم ..! ) ص62
جاستون باشلار في كتابه الرائد " جماليات المكان " يتحدث عن شعورنا بالالفة مع المكان و الذي يتولد من علاقتنا به منذ الطفولة فالبيت هو الكون الاول الذي يبقى جزءا من تكويننا الداخلي و مادة لاحلام اليقظة فالمكان بوصفه المسرح المادي للحياة ,عنصر جوهري لا يمكن تحييده و ينطلق من البيت النواة المكانية الاولى .يصف الفصل الخاص بجمالية المكان المكونات التقليدية للمنزل في القرية و دور تلك المكونات في الحياة اليومية لساكنيه و توائمها مع الاعتبارات الثقافية و الاحتياجات المعيشية فمعمار البيت يراعي دخول الهواء البارد و توفير الظل و تحقيق الامان و السكينة لقاطنيه . اجزاء البيت من الحوش (ماعون الجمال و سيد الامكنة), الدنكا " المطبخ ",غرفة المعيشة (امية العقار )بالاضافة الي قطع الاثاث و المقتنيات المنزلية كالصندوق الاسكندراني و الواوير و ما تمثله من دلالة و خصوصية .
في الجزء المتعلق بجماليات الناس , يقدم الكاتب عرضا متنوعا لتلك الجماليات وفق ما سبق ذكره من تنويع زوايا التناول بين الذات و الموضوع , فالكاتب يحرص على اعطاء صورة كاملة عن الانسان في رومي البكري كفرد و كمجموع .و ضمن الطرح الموضوعي يذكر الكاتب تحت عنوان ( مظاهر جماليات الالتزام النبيل ) :
ان جماليات الناس تقوم على ايمانهم بمظاهر اجتماعية ثلاثة هي : 1) الالتزام بواحدية المظلة التربوية ؛2) الالتزام بعقيدة التراحم و التكافل؛3)الالتزام بعقيدة التآزر و التعاون .
حيث يبرز جمال الانسان بالقيم الرفيعة التي يتبناها و يسلكها في حياته و يعرض الفصل الخاص بجمالية الناس الكيفية التي يتعاون فيها الناس في طقوسهم الاجتماعية سواء كانت تقليدية (ميلاد, وفاة ,زفاف) او الطقوس التعاضدية التي تعكس روح الجماعة كالفزعة في انقاذ المنكوبين اثناء فيضان النيل و مختلف الطقوس الاخرى التي تعكس المشاركة الوجدانية و الحميمية بين ابناء القرية .و لا يفوت الكاتب الالتفات الى جماليات ( العابرون و الاضياف)حيث يتطرق الى الاثنيات و اصحاب المهن المتنقلة التي اعتادت المرور من القرية في ترحالها فتقضي فيها بعض الوقت و منهم المادحون و الطيانة " عمال بناء الطين ", عمال الحفر ,تجار الدكاكين العائمة اضافة الى الغجر و التكارنة .
بعدها ينتقل الكاتب الى سيرته الذاتية ليلتقط جماليات الناس كأفراد اقترب منهم و عايشهم و حمل لهم الكثير من الذكرى و يقسمهم الى اربع مجموعات (صحاب ابي), (بعض اصحابي),(ذكرى اهل هم رواد حرفة),(ذكرى اناس لهم ايقاع خاص) و تضم هذة المجموعات الاربع 21 بورتريها سرديا تقدم نماذج انسانية منتقاة كلا على حدة و يتضمن كل بورتريه وصفا خارجيا للشخصية و نتفا من حياتها و مواقفها و طرائفها و ملمحا انسانيا اشتهرت او تفردت به بين ابناء القرية .
ضمن جماليات الكائنات و بالاضافة الى الحيوانات و النباتات ممثلة بالنخلة , يورد الكاتب كائنا مهما و حيويا بالنسبة للمجتمع الزراعي و هي الساقية بمكوناتها و هي اذ ترد ضمن الكائنات فذلك لانها شرط مادي اساسي في توفير الماء و يشير الكاتب ان ادراجه للساقية ضمن الكائنات الحية ( جواز اعتباري , طالما هناك امكانية لإقرار الوجود المتكافىء للشخصية الاعتبارية و الشخصية الطبيعية و على درجة واحدة من التساوي و التكافؤ ...! ) ص 153.و الساقية النوبية شبيهة بالناعورة و هي احد ابتكارات الحضارة النوبية منذ القدم و تعتمد في عملها على الثيران في تدوير الساقية التي مع دورانها تنغمس " القواديس"في حفرة الماء لتمتلىء فترتفع لتصب الماء في جدول يتجه صوب الحقل و جمالية الساقية تنبع من ابداعية وجودها ووظيفتها الشاهدة على عبقرية الانسان النوبي, فالساقية ليست مجرد آلة لكنها مكون مادي وحضاري اصيل يستمد اهميته من اهمية الماء في الحياة .
و كما ترد اسماء الكائنات المتواجدة في بيئة رومي البكري , لا يقتصر الحديث عنها في نطاق المعلومة العلمية و حسب بل يتعداه الى الحديث عما يحمله هذا الحيوان او ذاك من دلالات و حضور في الذاكرة الشعبية و تمثلاته المجازية و الاستعارية ما يحوله من مجرد موضوع خارجي الى مثير جمالي .و الكتابة عن الحيوان شحيحة في الثقافة العربية رغم وجود مصنفات تراثية كالحيوان للجاحظ و حياة الحيوان للدميري و جمالية الكائنات في هذا الكتاب تقدم نموذجا معاصرا للكتابة عن الحيوان .
الكتاب بترابط افكاره و نضج مادته و اسلوبية بناءه العام و تركيبه الداخلي و مزاوجته البارعة بين التوثيقي و الوجداني , الذاتي و الموضوعي , المعرفي و الجمالي يقدم اضافة استثنائية و تجربة كتابية معتبرة تدمج بين الخصوصية المحلية بجمالياتها و المشترك الانساني الواحد العابر للزمان و المكان .
عن الكاتب :
البروفيسور / عبدالشافي صديق محمد استاذ التاريخ في جامعة اب . من مواليد قرية رومي البكري – دنقلا , السودان . تلقى التعليم النظامي في مصر ثم حصل على البكالوريوس و الماجيستير و الدكتوراه في التاريخ من الاتحاد السوفيتي . عمل مديرا لمتحف على دينار بدارفور , عمل منذ 1978 و حتى 1994 محاضرا لمادة التاريخ بكلية التربية –جامعة عدن ثم رئيسا لقسم التاريخ بكلية التربية بإب . أشرف على تأسيس كلية الآداب بجامعة اب عام 1994 ثم تولى عمادتها منذ 1998 – 2001 بعدها و حتى الآن يعمل استاذا و مشرفا علميا للتاريخ الحديث بجامعة اب .
له تحت الطبع (محطات في مسارات الحياة ) – كتاب في السيرة الذاتية
|
|
  
|
|
|
|
adil amin
معاوية عبيد الصائم
الشيخ سيد أحمد
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست