الآن وقد انقضت فترة الثلاثة أسابيع التي تعهد تعبان دينق نائب رئيس دولة الجنوب السودان خلالها بإنفاذ عدة وعود لتطبيع العلاقة مع السودان ولم يحدث شيء مما وعد به وتعهد، فإني أعود لما ظللت أدعو إليه منذ زمن وأعني به حاجتنا الماسة إلى استراتيجية للتعامل مع دولة الجنوب الجديدة التي ظلت منذ ما قبل الانفصال أكبر مهدد لأمننا القومي وسلمنا الاجتماعي وأعظم عائق أمام تقدمنا التنموي والحضاري. أقول مجدداً إنه أن تأتي متأخراً خيرٌ من ألا تأتي، وأحسب أن الأوضاع في دولة الجنوب بعد انفجار الحرب الأهلية التي عصفت بها ولا تزال، تُيسِّر تحديد الخيارات السياسية للتعامل مع الدولة الجديدة ورسم استراتيجية للتعامل مع الجنوب. كنا نعلم وكتبنا عن ذلك مراراً أن تعبان دينق أضعف من أن ينفذ الوعود التي قطعها والتي تتلخص في أن تقطع دولته الصلة بقطاع الشمال التابع لها بل وتغيير اسم الحزب الحاكم لتلك الدولة وكذلك اسم الجيش الشعبي (لتحرير السودان) الذي يحمل مضامين استعمارية سيما بعد أن أصبح جيشاً لدولة أخرى لا تزال تُعبِّر صراحة عن رغبتها في تحرير السودان! كنا نعلم أن تعدد مراكز القرار في دولة جنوب السودان يحول دون إنفاذ أيٍّ من تعهدات الرجل الحالم المعروف بتهوره في كل شيء وعدم واقعيته ونضجه السياسي. نحن الآن أمام دولة فاشلة رزأتنا بفشلها وعجزها ولطالما قلنا إن مجرد الصخب والضجيج في بيت جارك يحرمك من النوم فكيف بحريق يشتعل في بيت جارك بدأت السنة اللهب تمتد منه إلى حدودك عبئاً اقتصادياً فادحاً وأمراضاً وبائية قاتلة.. ولاية النيل الأزرق وكل الولايات الحدودية مهددة بانتشار الكوليرا وهناك حالات إسهال مائي كثيرة مات جراءها عدد من الناس في تلك الولاية وربّك يستر. الخرطوم بها أكثر من نصف مليون جنوبي كما صرح واليها قبل أشهر ولا يزال النزوح على أشده ولا يوجد أي تصور قابل للتنفيذ لحل مشاكل الدولة الجديدة التي لا تزال ترقد في برميل متفجر من البارود. الاحتقان بين قبيلة الدينكا التي تحكم الجنوب بالحديد والنار وبقية القبائل خاصة الكبرى منها مثل النوير، على أشده، وروح الثأر تحوم فوق رؤوس الجميع بعد المجازر التي ارتكبها الدينكا.. الاستوائيون جميعهم والتي تحتل حكومة الدينكا عاصمتهم (جوبا)، يتململون ويتعرض قادتهم للبطش والتنكيل بل والقتل كما حدث للثائر الاستوائي بيتر سولي.. حتى معاقل الدينكا في بحر الغزال تشهد تمرداً من الفراتيت ربما لأول مرة بهذه الصورة العنيفة داخل مدينة واو. زعيم النوير والنائب الأول السابق لرئيس الجنوب رياك مشار نجا من القتل مرتين وكان هروبه الأخير درامياً بكل ما تحمل الكلمة من معنى ولن يُخدع مرة أخرى بعد أن فقد الثقة جراء تحطيم اتفاقية دولية تمت تحت سمع وبصر بل وإشراف منظمة الإيقاد العاجزة عن فعل أي شيء لمواجهة الوضع الكارثي الذي يتمرغ الجنوب في نيرانه المشتعلة. لا أرى أملاً في تعافٍ (وطنيٍّ) في دولة لا تجمع بين مكوناتها القبلية هوية وطنية جامعة، ذلك أن الوطن هو القبيلة والقبيلة هي الوطن.. ذات المشهد الذي تكرر منذ أكثر من أربعين عاماً عندما جاء جوزيف لاقو قائد حركة انيانيا إلى الرئيس نميري طالباً منه أن يعدل اتفاقية أديس أبابا (1972) بحيث يُعيد تقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم بدلاً من إقليم واحد وذلك بعد أن اكتشف لاقو أن توحيد الجنوب مكَّن الدينكا من استعماره وقهر قبائله الأخرى وقام الرئيس نميري بالفعل بتعديل الاتفاقية مما أغضب الدينكا، وفيهم قرنق، واعتبروا ذلك خرقاً للاتفاقية التي مكنتهم من إخضاع الجنوب لسيطرتهم المطلقة. ما أعجب عِبَر التاريخ الذي يعيد نفسه مرة أخرى بعد ما يقرب من نصف قرن من الزمان فها هم الدينكا يكررون ذات السيناريو ليُخضعوا الجنوب بالحديد والنار لهيمنتهم وبصورة أكثر وحشية ودموية بعد أن تمكنوا من حكم الدولة الجديدة وبعد أن أنشؤوا جيشاً من إثنية وقبيلة واحدة سيطرت على كل شيء. نحتاج إلى أن نضع كل تلك الحقائق وتلك الدروس والعبر أمام ناظرينا ونحن نفكر في وضع استراتيجية للتعامل مع جنوب السودان ولا أقول دولة جنوب السودان ذلك أن الجنوب ليس دولة بالمعنى المعروف إنما تجمعات سكانية وقبلية ينبغي أن نتعامل معها على هذا الأساس ثم ننظر هل نتعامل مع الجنوب الحالي كدولة واحدة لن تتوحد قبل أن تتوحد الشحمة والنار أو قل الزيت والنار أم ننظر إليه بعين أخرى؟. أقولها ضربة لازب إنه لا حل في رأيي إلا بفصل أعالي النيل الكبرى كمرحلة أولى عن دولة الدينكا بحيث تضم الدولة الجديدة قبيلتي النوير والشلك ويمكن أن يتم ذلك باستفتاء أفراد القبيلتين وآن لمشار ولام أكول أن يقودا التفاوض بالنيابة عن قبيلتيهما مع الدينكا حول هذا الخيار ويطالبا بتقرير المصير وأرجو أن أعود لهذا المقترح لاحقاً بحيثياته المنطقية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة