هناك أناس يمرون بحياتنا كالنسمة، تشعر بأنهم يخففون عنا عبء الحياة، ويجملونها لنا، وعندما يغيبون يأتينا إحساس بأن شيئاً ما ينقصنا، وخصوصاً إذا كان هناك أمر ما يحتاج إلى النصيحة المخلصة، والرأي الصائب.. قد يكون بعضهم قاسياً في إبداء الرأي، وصادماً في بعض الأحيان، لكن صدقه وحرصه على مصلحتنا يخففان الحدة والقسوة، ويزيلان الغشاوة التي على عيوننا، حتى نرى الأمور على حقيقتها، لذا قيل يا بخت من بكاني وبكي عليا، ولا ضحكني وضحك الناس عليا. محمد عبدالجليل أحد أولئك الذين يصدمونك بصدقهم وعفويتهم، فهو لا يصدم لأنه يريد أن يؤذيك، لكنه يفعل ذلك من أجل ترى الحقيقة ناصعة، وهو عندما يفعل يفعله كجراح ماهر يشعرك بقليل من الألم، لتسترد العافية وتنعم بالحياة. محمد عبدالجليل ليس عنده ظاهر وباطن، فكما يقال "اللي في قلبه على لسانه"، وهذا الوضوح هو ما يتميز به، وهذا ما لا يحبه كثيرون في العمل العام، الذين يحبذون تجميل الواقع، وتزيينه، ولكنه واقع كحلاوة المولد يمكن أن يذوب في لحظة، لتذهب حلاوته، وتبقى مرارته. وبصدقه جنبنا محمد عبدالجليل كثيراً من المرارات، فعندما كنا نقيم الآخر الذي نقف أمامه ونواجهه يكشف جوانبه الإيجابية ومصادر قوته قبل أن يتناول سلبياته ومواطن ضعفه، وهو لا يقف عند تحليل يمكن أن يجعل الإحباط يتسرب إلى النفوس، لكنه يعطي الأمل بأفكار ومبادرات لا تخطر على بال كثيرين، ولكنه يطرح الحلول في الختام، لكي تبقى آثارها الإيجابية المحفزة للهمم. تشعر به وهو يطرح ويناقش أنه قادم من زمن مضى، مثقلاً بالخبرات، ومحملاً بالأفكار التي قد تبدو غريبة في لحظتها، إلا أنها وحدها تفصح عن واقعيتها، وإمكان تطبيقها بقليل من التفاؤل والخيال. وأنا شخصياً شعرت بالإحباط في مواقف كثيرة عندما تحتدم المشكلات في بعض كياناتنا، إلا أن وجودي في مواجهة كثير منها مع الأخ محمد عبدالجليل كان يعطيني قوة دفع عظيمة، إلى حد أن المشكلات كانت تمثل انطلاقة جديدة لكياناتنا بعد أن تتخلص النفوس من بعض الرواسب السلبية، التي هي صنو أي نشاط عام. كنت أخشى أحياناً أن ينفض السامر عندما يحتد محمد، ويوجه غضبه إلى من يراه مخطئاً، لكن المفاجأة دائماً أن من يغضب عليه هو من يستمع أكثر، ويتأثر أكثر، وبطريقة ممنهجة يعود إلى تطييب النفوس، والتركيز في الجوانب الإيجابية، حتى يهدأ الجميع ويتراضون، وهو يقسم الأدوار بينه وبين من يشاركه السعي إلى حل المشكلة من دون سابق ترتيب، فهو يتناغم كما الموسيقي الماهر الذي يستطيع العزف بمهارة تحت أي ظرف. تمثل مبدئيته مصدر قوته، فهو لا يشخصن المسائل، ولا يلون الحقائق، ولا يعترف بغير لونين: الأبيض والأسود.. كانت هذه المبدئية تحسم أموراً كثيرة ومواقف في قمة التعقيد، لأنه لا يحب السفسطة، وتزويق الكلام، ومن يفعل، يواجهه بسؤال محدد، لا يحتمل غير إجابة واحدة، ليلقي بذلك العبء عن كثيرين، ممن لديهم الرأي نفسه، إلا أنهم لا يملكون جرأة الإفصاح، لذا فهو نادر في زمان المجاملة والمحاباة. سيفتقد مجتمع الرياض الأستاذ محمد عبدالجليل الشفيع أخو الإخوان، وهذا الإحساس هو ما جعل كل منظمات المجتمع السوداني تجتمع تحت سقف واحد، وبروح واحدة، وقد تمنينا مثل هذا الاجتماع الذي لم يصبح واقعاً إلا في حضرة هذا الرجل الجليل. كان يشعر أننا جاملناه بمنحه عضوية جمعية الصحفيين السودانيين، بينما هو يستحق هذه العضوية بإسهاماته الفكرية والثقافية، وكتاباته، وفي أي كيان صحفي كتاب ليسوا صحفيين، وقد يكون تأثيرهم أكبر من كثير من الصحفيين المحترفين. وبالفعل كان معنا بفكره وجهده، فمثل إضافة حقيقية للجمعية، فله منا كل تقدير واحترام. ومع أن ظروف الحياة لم تكن تسمح إلا بقليل من التلاقي، وبكثير من التنسيق والمشاركة الوجدانية من على البعد عبر الهاتف ووسائل التواصل الاجتماعي إلا أن إحساسي أنني لن أستطيع مقابلته حين أريد يرهقني نفسياً، ويجعلني أشعر باليتم الأخوي إن جاز التعبير. وفي الوقت نفسه، أشعر أن الله اختار لهذا الرجل الطيب الوقت المناسب لكي يحط رحاله في أرض الوطن، إنصافاً لمن شاركته تربية الأبناء والقيام بدوري الأب والأم في غيابه، فهي تستحق أن يكون محمد معها، لتتذوق طعماً جديداً لحياة آمل أن تكون مترعة بالسعادة والهناء على المستوى الشخصي، ومشرقة بفجر جديد يطل على الوطن، وخيراً فعل من صمم درع جمعية الصحفيين حين أخطأ وجعل عنوان الدرع "تهنئة" بدلاً من "شكر وتقدير". كل التقدير لإخواني في الملتقى السوداني الاجتماعي الثقافي الرياضي الذين أتاحوا لمحبي محمد عبدالجليل من الكيانات والشخصيات أن يكونوا شهوداً ليوم عظيم من أيام رياض الخير.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة