ونحن على أعتاب المرحلة الثانوية في ودمدني ، وبين جوانحنا عقب إنتفاضة أبريل المجيدة أشواقٌ مفعمة بحماس الصبا والشباب نحو تحصيل بدايات تكويننا الفكري والسياسي ، إستمعنا إلى ما كان يقال في دهاليز المدارس وأركان نقاشها السياسية التي بدت خجولة وخافتة الصوت كتجربة أولى في الإفصاح السياسي الطلابي عقب ستة عشر عاماً من الكبت السياسي والفكري ، إلى ما يُقال عن الحزب الشيوعي من سِمات كان يحلو لبعضنا أو بعضهم أن يربطها بواقعنا الإجتماعي ، فإن كنت من غير المحظوظين في مجال مصادفة الحقائق وتحصيلها بيسر وسهولة ، فأنت بالتأكيد كنت ستسمع بعض من يحاولون إثناءك عن الإتجاه اليساري بالعزف على الوتر الحساس في تكوين شخصيتنا السودانية ، ذلك المتعلِّق بقداسة المُثل والقيَّم والسلوكيات والأخلاق ، فهمس بعضهم في آذاننا آنذاك أن مجتمع التنظيم الشيوعي هو ساحة للإنحلال الأخلاقي والإلحاد والتناقض مع قيِّم الفضيلة والعقيدة ، فضلاً عن تناقض مناهجه مع المفهوم الطبيعي للعدالة الإجتماعية من منظور العمل والإنتاج ، والعدالة في توزيع الثروات ، ثم مرت الأيام وصرنا أكثر وعياً بما حولنا من ظروف وأحداث سياسية ، وأكثر وعياً بما يجب إستيعابه في وحي الآيدلوجيات والبرامج التي تطرحها الأحزاب السودانية المختلفة ، لكن الأهم من ذلك أننا تشاركنا والشيوعيون وأغلب اليساريون في فعاليات وتنظيمات سياسية وثقافية شتى ، بالقدر الذي جعلنا نعرف فيما بعد أن الفكر والتوجه السياسي لا علاقة له البتة بالسلوك الشخصي والتوجه العاطفي الإنساني بما في ذلك ما يتعلَّق بالإعتقاد الديني وما يفرضه على الفرد من أحكام وسلوكيات ، فوجدنا أثناء تجاربنا السياسية المتواضعة الكثير من الشيوعيين يمثِّلون الجانب المشرق في مجال السلوك والأخلاق الفاضلة بل كان بعضهم أكثر تديناً وإرتياداً للمساجد ووقوفاً مع المنهج الوسطي للطرح الإسلامي السياسي ، وفي المقابل وجدنا بعض من ينتمون إلى تنظيمات سياسية ترفع شعار الدين والأخلاق والقيِّم السلوكية الفاضلة ، يخوضون في وحل الرذيلة والإنفلات الأخلاقي وسلوكيات التعامل اليومي التي نبذها وحرّمها الإسلام وسائر الديانات السماوية ، فإنطبق عليهم في ذلك المثل الشهير (بالنهار يسبّح وبالليل يضبِّح) ، أقول ما سبق والأمة السودانية والبلاد تُرزأ بفقد أم الغلابة والكادحين وحاملة لواء النضال الممهور بصبر حرائر السودان الصامدات على مرِّ عهود الظلم والإستبداد التي توالت على هذا الشعب المغلوب في أمره ، الفقيدة فاطمة أحمد إبراهيم رحمها الله ، هي رمز سوداني أصيل يحكي عن نضالات المرأة السودانية وصمودها أمام التحديات الحياتية بأوجهها المختلفة ، بداية بالإضطلاع على أمر أسرة أُغتيل راعيها ، ونهاية ً بأمر وطن ومجتمع لا يستقيم أمر إخراجه من المأزق دون القبض على جمر التمسُك بالمباديء والصمود أمام الجلّاد بالحكمة والموعظة الحسنة والسلوك الحضاري والحاسم في ذات الوقت ، هذا ما رفعت رايته فاطمة أحمد إبراهيم ، وهي تستحق إكرام الوفادة حيَّة وميته ، والشعب السوداني الكريم أيضاً يستحق أن يحتفي بإحدى مشاعله المشرقة في وهدة الظلام ، على أمل أن تسلك حواءنا المستقبلية نفس الطريق الذي مهَّدته لهن فاطمة أحمد إبراهيم.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة