"الي روح اختي قمر القسوم (1936-2002) التي حال دون تعليمها حائل. ولم تتوقف عن طلبه مع ذلك في حلقات الأمية التي نظمها الاتحاد النسائي بحي الداخلة بعطبرة في نحو 1956. وكانت تأتيني بمجلة صوت المرأة، منبر الاتحاد النسائي، التي بها اهتديت الي معان غراء عن وجع ظاهر شغلت به عمري. رحمها الله وأمطرها بشآبيب البرد والثلج والرحمات"
حدثت السيدة فاطمة أحمد ابراهيم كاتبة اسمها مهناز أفخامي بطرف من سيرتها في كتاب عنوانه "نساء في المنفى" صدر بالانجليزية في عام 1994 . وجعلت الكاتبة لفصل فاطمة عنواناً هو "السهم في كنانته". ومصدر التسمية أن افخامي لما التقت فاطمة لم تصدق أن الذي سمعته عن طاقة وجهاد المرأة وقوة شكيمتها وعارضتها مما يمكن أن يحتمله هذا الجسد الناحل بحضوره الأريحي اللطيف أو أن يعبر عنه صوتها الخفيض الأجش. فبدت فاطمة للكاتبة سهماً في غمده ومحارباً في إجازة. وقالت إنها مثل السهم في كنانته يبدو آلة من الحطب والحديد لا خطر منها. وليس يتسنى للمرء إدراك شوكة هذه المرأة وعزائمها المقاتلة حتى يراها في المعمعة الاجتماعية كما السهم يؤخذ من كنانته ويصوب بقوة وإرادة فيطعن غرضه بقوة وتصميم. ووجدت في حديث فاطمة السخي الي أفخامي زواية للنظر الي أسلوب فاطمة القيادي لم تقع لي قبلاً. فمنذ أول يوم استمعت الي فاطمة في الستينات الاولي بالقاعة رقم 102 بآداب جامعة الخرطوم وجدتها تربط بين حرصها علي الحشمة (المبالغ فيها كما يراها البعض) في مظهرها وبين خدمة قضية المرأة في بلد يواتي خصوم تلك القضية من البطراكيين (عتاة المعتقدين في سلطة الرجل والممارسين لها) نصوص الاسلام لإفسادها وضبطها. فقد حكت لنا كيف أنها ورفيقات لها في الخمسينات الأولى كن يتحجبن من أعلى الي أسفل ليذهبن للشغل في مكتب مجلة صوت المرأة، الناطقة باسم الاتحاد النسائي، أو المطبعة. وقالت إنهن أقبلن يوماً علي المطبعة ولما رآهن أحد عمال المطبعة بادر بالقول : "الله يدينا ويديكم." فقد ظن العامل أنهن من الفلسطينيات الملثمات اللائذات الى السودان ممن كن يضطررن أحياناً لتكفف الناس. ولم يغر فاطمة تبدل الاحوال في الستينات ، الذي به كفت البطراكية عن النظر البوليسي لزي المرأة، لتغير من أسلوبها في الحشمة. فقد جاء في حديث فاطمة الى أفخامي أنها حين دخلت البرلمان في 1965 إمراة وحيدة بين 365 نائباً ذكراً احتشمت في اللبس كثيراً. وقد هزمت بذلك عتاة خصوم المرأة الذين لم يتأخروا أبداً بعد ذلك في التصويت لمشروعاتها بشأن تقدم المرأة. وقد أخذت أجيال تلت فاطمة في الحركة النسائية عليها الحاحها علي الحشمة في المظهر والتضييق عليهن في ضوابط اللبس وغير اللبس. وقد استعانت فاطمة بنصوص من لينين، المظنون فيه السفه والمشاعية، في محاضرة لها يوماً لتزجر التقدميين عن الاسفاف الجنسي باسم التقدم. وربما بالغت فاطمة في المطابقة بين الحشمة وأسلوب لبسها، الذي هو ثمرة بيئة تعنتت علي المرأة في الخمسينات وماقبلها، تعنتاً كبيراً. غير أنني لم أجد من نقدة أسلوب فاطمة هذا من كان في تفهم أفخامي له وحسن إدراكها لمغازيه. فقد قالت أفخامي بعد استماع مطول لحكاية فاطمة عن نفسها، وما اضطرته لها دعوتها إلى تحرر المراة: "إنها لواقعة معذبة أن تكون مناضلاً مبادراً من أجل تحرير المرأة في بلد مسلم. فالشأن الشخصي لمثل هذه القائدة المبادرة يتحول إلى شأن سياسي عام." وخطرت لي أغنية من أغاني الربوع الامريكية الرائجة هذه الأيام تنعي علي الناس انهم "لايرون الألم من وراء القناع."
فلم تكن فاطمة بما ذكرته عن ليبرالية أسرتها، وخفض عيشها، بحاجة للبس هذا القناع الثقيل. كانت فاطمة في حل عن قيد الإسراف في اللبس لو لم تخرج من أمن بيتها إلى العمل العام تنتصر لبنات جنسها الغبينات في ظل بطراكية الخمسينات المدججة. فقد كانت أمها قارئة بالعربي والانجليزية وتدير مع أبنائها وبناتها جلسات مشتركة للمطارحة الشعرية. وكانت الأسرة في ذلك الزمان القصي تجلس إلى مائدة واحدة لتناول الطعام. وكانت والدة فاطمة تقرأ لوالدها الصحف بينما يقرأ لها القرآن. وكانت توقر زوجها العالم مدرس علوم الدين في مفاوضة حسنة تحفظ له القوامة وتؤمن لنفسها مساحة مناسبة لحريتها في دفع بناتها وأولادها في مدارج التعليم. ومن عرف آل احمد إبراهيم عَرِف الآن من أي بئر نشلوا ماء همتهم في شغل الوطن، وصدق عزيمتهم في الخدمة العامة، وثاقب فصاحتهم في الذود عن حريته. فلم أفهم ثقة صلاح احمد ابراهيم، شقيق فاطمة، في جنس المرأة ثقة لم تخالطها قشور الايدلوجية، الا بعد أن قرأت حديث فاطمة عن نشأتها الاولي. وقد أتاح لي سخاء افخامي في تفهم متاعب فاطمة أن أقارن بين دعوتها إلى تحرير المرأة ودعوة هدي شعراوي في مصر. فالمعروف أن لحظة إطلاق نداء تحرير المرأة عند هدي كان هو خلع الحجاب بينما كان الرمز عند فاطمة هو ارتداء الحجاب أو ماهو قريب منه. وربما رددنا الخلاف إلى أحوال تباين وضعي المراة في مصر والسودان من حيث تقدم المجتمع، وعلاقات الذكورة والأنوثة فيه. غير أنه يجب ألا يغيب عنا أن دعوة فاطمة للتحرير اتجهت إلى غمار النساء وفي إطار عمل طبقي شعبي شيوعي بينما كانت هدي ودعوتها بعضاً من نهضة برجوازية ثقافية في مصر. ولا يريد كل قائم بالأمر لغمار الناس أن يخرجوا من اليد بينما هم أرأف بالبرجوازيين والبرجوازيات. وقد سبقتني فاطمة إلى لفت النظر إلى هذا الفارق بين حركتي المراة في مصر والسودان في ردها علي مقال لاستاذنا عبد الخالق محجوب نشرته مجلة "الشيوعي"، المنبر الفكري الإيدلوجي للحزب الشيوعي، في العدد رقم 132 لعام 1968 تحت توقيع "هاجر" وهو اسمها الحركي علي تلك الأيام. أعجبني من قول فاطمة لأفخامي إنها تؤمن بأن النسوية تقليد راسخ في ثقافة السودانيين، وأن مساواة الرجال والنساء مما يمكن أن نبلغه بالبناء فوق الأساس الصالح لهذه الثقافة. وقد وافق هذا ما كنت أقرأه لها منذ أيام في محاضرتها التي ألقتها أمام طلاب جامعة القاهرة فرع الخرطوم في 1980 وعنوانها "حول قضايا الأحوال الشخصية." وقد انتبهت إلى عنصرين من عناصر منهجها التأصيلي. فقد بدأت بقانون الاحوال الشخصية (الموروث وليس الصادر عن دولة الإنقاذ) ولم تجد ما تعترض عليه أصلاً غير بيت الطاعة. أما في بقية المواد فهي إما استحسنتها وتركتها علي حالها مثل قوانين الحضانة، أو ما طالبت أن يتم أمام قاض مثل الطلاق، وعقد الزواج، وتعدد الزوجات، وبشروط دقيقة. وقد وجدت فاطمة في بعض التشريعات الشرعية أثراً باقياً من نضالها هي نفسها ونضال الاتحاد النسائي مثل المنشور الشرعي رقم 54 لعام 1960 الذي كفل للفتاة الاستشارة حول من تقدم لزواجها. وقد جاء المنشور استجابة لمذكرة تقدم بها الاتحاد النسائي إلى قاضي القضاة في 1954 يحتج علي تزايد حالات الانتحار من فتيات لم يقبلن الاقتران بمن اختارته الأسر لهن. وأميز من ذلك كله أن فاطمة طالبت بأن تجيز الحكومة الخصم من مرتب الأب ما يكفي لنفقة عياله. ولم تكن القوانين المالية (وأحسبها ما تزال) تخصم أكثر من الربع. وقد تقيدت المحاكم المدنية بهذا القانون المالي بالطبع. أما المحاكم الشرعية، الواقفة علي أوجاع النساء وفقيراتهن بالذات، فقد كانت تلح، إلحاح فاطمة، أن يخصم من الأب ما يعول أطفاله بغض النظر. وهكذا تقدمت المحكمة الشرعية في أمر النفقة وتأخرت المحكمة المدنية الموصوفة بالحداثة، أي بالعدل والاحسان في شرط الزمان والمكان. من كتابي "فاطمة أحمد إبراهيم: عالم جميل"، دار عزة، 2012.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة