ومن الكويت انطلق السفير والدكتور عطا الله حمد بشير إلى تجارب ومهام دبلوماسية متعددة، أبرزها ما أسماه "المهمة المستحيلة "، وهي تطبيع العلاقات مع السعودية بعد أن شابها الكثير من التوتر والفتور نتيجة موقف الحكومة السودانية من غزو الكويت،وبسبب تلك الحملات الشهيرة التي قادها المقدم يونس والتي كان يتحدث فيها عن "خنازير الخليج" و"الفهد الأعور" و"خائن الحرمين الشريفين" و"يهود آل سعود". وبعد أن اكتشفت الحكومة السودانية خطأ وخطل تلك المواقف، سعت لإصلاح ذات البين مع دول الخليج ومع المملكة العربية السعودية كمفتاح رئيسي لذلك، إلا أن الجانب الخليجي السعودي هو الذي لم يكن متحمسا. بدا ذلك جليا في رفض السعودية ترشيح خمسة سفراء سودانيين منهم مسئول إنقاذي كبير ،وكادر إسلامي معروف، وعالم وأكاديمي مرموق ، ورجل دين شهير، ووزير سابق. وفي محاولة لإيجاد الشخصية التي قد لا تعترض عليها السعودية رأت الحكومة السودانية تجربة ترشيح دبلوماسي مهني محترف ومتدرج في السلك الدبلوماسي، قبلته السعودية أخيرا، وكان ذلك هو السفير عطا الله حمد بشير. كان معروفا عن السفير عطا الله إنه يتمتع باستقلال ومرونة ملحوظة في تفكيره السياسي، ومنضبط في سلوكه المهني والشخصي لحد كبير، لكنه لم يحاول أبدا ركوب الموجة كما فعل البعض في بدايات عصر الإنقاذ، عندما تحولوا فجأة وبقدرة قادر وبين عشية وضحاها إلى حَمَامات مساجد. ويحكي لنا عطا الله بنفسه طرفة لطيفة بعد قبول ترشيحه سفيرا للسعودية. يقول عطا الله "كنت ذات يوم في طريقي إلى داخل الوزارة عندما قابلني وزير الخارجية بصحبة مجموعة من السفراء والدبلوماسيين مشمرين قمصانهم للوضوء ومهرولين لصلاة الظهر بمسجد الوزارة، وتحدث أحدهم للوزير ،ممازحا ومتهكما وقائلا، أنظر سعادتك ها هو عطا الله لا يذهب معنا للمسجد ورشحتموه سفيرا للسعودية ، فأين كنتم سترشحونه لو كان من رواد المسجد؟." كتب عطا الله عن تجربته في السعودية بقدرة فائقة على الرصد والتصوير والتحليل، وبشكل زاخر بكثير من الحقائق والمعطيات والتفاصيل، واستعرض كافة المشكلات والأحداث والتطورات الهامة التي عاشها وعايشها خلال تلك الفترة، والصعوبات الجمة التي قابلته خلال مساعيه لتطبيع العلاقات السعودية السودانية، وتجسير الفجوة التي ظلت تفصل بين البلدين، من خلال الدبلوماسية التي أسماها عطا الله "دبلوماسية تهدئة المواجع وسد الذرائع". فصّل عطا الله ذلك المسعى الدبلوماسي في عدة محاور تتراوح بين إزالة الآثار التي تركتها حرب الكويت، ومعالجة ملف أسامة بن لادن، الذي وصفه عطا الله بالأصعب والأكثر تعقيدا والأشد تأثيرا في مسار العلاقات السعودية السودانية. وبعيدا عن التطورات السياسية الساخنة، تحدث عطا الله عن مشكلات من نوع آخر مثل فوضى ومآسي الحج ،وظاهرة الحجاج الخضر، ومشاكل الجالية وسياسة التعامل مع المغتربين التي اشتكى الكثيرون منهم بأنهم صاروا، وأقتبس مما كتب عطاالله، " كالبقرة الحلوب لتمويل معظم نشاطات الدولة عبر قائمة الإتاوات والضرائب والعوائد من دفاع شعبي ومجهود حربي ودمغة جريح وزكاة ودعم تعليم وغيرها ، إلى جانب الاستنفار شبه الإجباري لدعم الحكومة في أزماتها المتكررة بجمع التبرعات". ويخبرنا عطا الله كذلك عن سفارته التي كانت تعاني من الترهل والازدحام رغم أن العلاقات السعودية السودانية لم تكن في أفضل حالاتها، وعن الجيش الجرّار العرمرم الذي كانت تضمه سفارة السودان بالرياض حيث بلغ طاقمها الدبلوماسي والمهني والإداري والمالي حسب شهادة سفيرها عطاالله 72 موظفا خلاف الموظفين والعمال المحليين، وعدا ما تضمهم القنصلية في جدة. وكانت السفارة السودانية هي ثالث أكبر سفارة في الرياض بعد سفارتيّ الولايات المتحدة الأمريكية واليابان " لدرجة إن الخارجية السعودية احتجت رسميا وكتابيا على تلك العددية التي لا تتلاءم وحجم دولة فقيرة كالسودان. وقد كانت السفارة تعج بملحقيات عديدة ومكاتب وجمعيات وبنوك وخلايا لا تمت لمهام السفارات المنصوص عليها في القانون الدولي والأعراف الدبلوماسية بصلة. وحسب عطا الله ، " كانت السفارة تضم إمبراطوريات ونوافذ بنوك، ومكاتب لجمعيات متنوعة مثل مكتب جمعية القرآن الكريم وجمعية التلاوة ومكتب الصندوق الخيري ومكتب المأذون وإمام مسجد السفارة وفصول تدريس المناهج السودانية لأبناء الجالية ولجان الاستنفار لدعم السودان واستقطاب الإعانات والإغاثة" (وهذه مجرد أمثلة ). كذلك، يقول عطاالله، "فقد طالبتنا الحكومة السعودية رسميا وكتابيا بتصفية وإغلاق البنوك السودانية التي تعمل من داخل السفارة بحجة إن ذلك يمثل انتهاكا للقوانين والأعراف الدولية الخاصة بالبعثات الدبلوماسية التي لا ينبغي أن تزاول أي أعمال تجارية تحت مظلة الحصانة الدبلوماسية، كما أن الأمر يتعارض مع قوانين المملكة التي تحظر عمل البنوك الأجنبية في البلاد حتى من خارج السفارة ". وحسب توصيف عطا الله كسفير فقد" كانت السفارة بمثابة سفارة لدولة الإنقاذ وأجهزتها وليست سفارة السودان التي نعرقها وتعرفّها المواثيق الدولية" انتهى الاقتباس.
والتجارب الدبلوماسية للدكتور عطا الله عديدة ومتنوعة ومختلفة ، فعلى عكس تجربته في سفارة الرياض بكل ما فيها من ترهل وازدحام ، لفت نظري تجربته في سفارة السودان في مالطا بكل ما فيها من عزلة وسكون، حتى أنه وجد نفسه لا يفعل أي شيء سوى الآذان في مالطا، وليس لخمس مرات في اليوم، بل على مدار اليوم، وعلى امتداد الأسبوع، وعلى مر الأشهر التي قضاها هناك. مالطا جزيرة صخرية صغيرة وسياحية رائعة يؤمها السائحون الأوربيون للاستمتاع بسواحلها الحجرية وطقسها الساحر، ومطاعمها المتنوعة وطعامها الشهي ، وهي تلك الجزيرة التي وصفها ونستون تشرشل بأنها صخرة صغيرة من التاريخ والرومانسية. وعندما حدثت القطيعة ذات مرة ، أيام الرئيس نميري، مع ليبيا، كما كان يتكرر كثيرا ، تفتقت قريحة جهاز الأمن السوداني وقتها عن فكرة اقتراح ألمعي بتأسيس سفارة للسودان في مالطا كواجهة لمراقبة تطورات الأوضاع في ليبيا، ورصد نشاط المعارضة السودانية فيها ، عبر البحر الأبيض المتوسط، ووقع الاختيار على عطا الله ليفتح السفارة هناك كقائم بالأعمال أصيل، وكواجهة لتنفيذ تلك الفكرة الجهنمية. لم يحتج الأمر لكثير من الوقت ليتبين للأخ عطا الله إن تلك هي مهمة خيالية جيمس بوندية لا طائل من ورائها، وإهدار للمال العام، فلم يتردد أن خاطب الوزارة في عدة مرات مطالبا إغلاق السفارة حتى تحقق له ما أراد ، وهو ما يوضح لنا بصدق أي معدن من الدبلوماسيين هو عطا الله. فقد كان بإمكانه أن ينعم ويستمتع بإجازة ممتدة ومفتوحة، وليست مدفوعة الثمن فحسب ، وإنما بأجر مجزي، وبالأخضر الليموني، وأن يقتني جهازيّ راديو ومنظار كاربّين ، ويتمرغ في الشواطئ المالطية ليتسقّط أخبار ليبيا، و يستمتع باستنشاق النسائم المنعشة ، ويتأمل هدير أمواج البحر علها تأتي له بالأخبار، ويناجيها كما كان المجنون ابن الملوّح يناجي ليلاه " ألا يا بحر ويّحك نبّني.... بأنباء "ليبيا" وأنت بها خبير". وكوريا هي من المحطات الأخرى التي عاصرت فيها عطا الله لبعض الوقت، وكرفيق غربة هذه المرة وليس زميل عمل. وعطا الله هو أول سفير للسودان في كوريا الجنوبية وقد نجح في تأسيس بداية راسخة ومتزنة لعلاقة سودانية كورية جنوبية معتمدة تماما على تبادل المصالح والمنافع الاقتصادية بين البلدين، من خلال رؤية واستراتيجية اقتصادية صرفة، وهي سياسة تمخضت عن عدد من المشروعات السودانية الكورية المشتركة، وعن علاقة ثابتة ومتطورة وراسخة حتى اليوم. وأذكر أن عطا الله كان يقول لي إن السودان يمكن أن يستفيد من التجربة الكورية من منظورين. المنظور الأول هو تلك التجربة التنموية الفريدة التي تمكنت بها كوريا الجنوبية من التطور بسرعة غريبة من مجرد دولة فقيرة متخلفة محدودة الموارد متلقية للمعونات مثقلة بجراح حرب أهلية شرسة ومدمِرة شاركت فيها أقوى جيوش العالم من أمريكية وصينية وسوفيتية، وطرفا في حرب باردة شديدة السخونة، وعرضة لعمليات تخريب وإرهاب وتآمر عديدة، لتصبح واحدة من بين الدول العشر في العالم الأكثر تطورا اقتصاديا وصناعيا وتكنولوجيا وإلكترونيا، والمانحة للعون. والمنظور الثاني هو أن نتأمل ونتمثّل حرص كوريا، الممزقة بين جنوب وشمال، على استعادة وحدتها السليبة، رغم علمها إن ذلك ربما يكون خصما على حياة الرغد والبحبوحة والرفاهية التي تعيشها، ونتعلم كيف نحافظ على الوحدة بين شمالنا وجنوبنا ونعض عليها بالنواجذ، قبل أن نعض بنان الندم، بعد فوات الأوان، ولات حين مندم. وتجربة أخرى وهامة عايشتها مع الزميل عطا الله هي تجربة أديس أبابا. ولا أقول هامة لأي سبب يتعلق بالروابط الثنائية بين البلدين، فقد كانت متسمة بكثير من الجفاف والتوتر، ولكني أقصد ما شهدته أديس أبابا وقتها، في أعقاب انتفاضة إبريل، وما صوّره عطا الله بشكل جيد في كتابه، من حراك شعبي دبلوماسي سوداني مكثف، ومحاولات مكوكية متنوعة ومختلفة لإيجاد مخارج للمشكلة السودانية. تمثلت تلك التحركات في لقاءات عديدة بين مختلف الأطراف السياسية في كوكادام وأديس أبابا، بين ممثلين للتجمع الوطني الديمقراطي والحركة الشعبية، وبين المهدي وقرنق، والميرغني وقرنق، والتي كانت تدور في دهاليز وقاعات كبرى الفنادق في أديس أبابا، وبحضور كثيف من مختلف ألوان الطيف السوداني من الشمال والجنوب، ومن الخرطوم ومن أفراد الجالية السودانية في أديس أبابا. كان عطا الله وكل بقية طاقم السفارة السودانية في أديس أبابا وقتها خلايا نحل وفي حالة استعداد وتأهب قصوى خلال فترات تلك المفاوضات. كان من الملفت للنظر والذي استغرب له الكثيرون من الدبلوماسيين والصحفيين والمراقبين الأجانب هو ذلك الاندماج الكامل بين الجميع ، شماليين وجنوبيين، في فترات الاستراحات وفي باحات ومجالس وصالات الفنادق، وهم في حالات أنس وسمر وضحكات متبادلة. كان من العادي جدا أن تجد السفير عثمان نافع والقائد الميداني سلفا كير ، أو عطا الله ودينق ألور ، وخلافهم، يتجالسون على طاولة واحدة، وبينهم فنجال شاي أو كوب قهوة. حتى إن صحفي من أصل أوربي ومراسل لصحيفة " ديلي سن " في جنوب أفريقيا ، واسمه " رود وودز" كما أتذكر حسب القصاصة التي كنت أحتفظ بها لوقت قريب، كتب يقول "حسب مشاهداتي وانطباعاتي من داخل الفندق، فهم ليسوا بحاجة لمن يتوسط أو يجمع بينهم، وإنما لمن يفرّق ويفصل بينهم حتى ينصرفوا لمفاوضاتهم". وربما تكون ذكريات تلك الأيام الخوالي التي كان مأمولا لها أن تسهم في حل المشكلة السودانية حلا أخويا وديا يحفظ للسودان وحدته، هي بعض ما دفع عطاالله ، بكل تحسرٍ ومرارة، لرصد وتحديد ما أشار له بالأخطاء القاتلة والكوارث الدبلوماسية التي قادت لفصل وتمزيق ونحر السودان على مذبح " إيقاد" ، وهو ما سنتعرض له في الحلقة القادمة والأخيرة بإذن الله .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة