( لنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) صدق الله العظيم في هذه الظروف القاسية، والبلاد تمر بأصعب أوقاتها، بعد الفيضانات والسيول التي دمرت البيوت، والذين نجوا بأنفسهم،حين تحطمت مساكنهم، فقدوا كل ممتلكاتهم .. والكثيرين ما زالوا في العراء، بعد أن نهب ممثلي الحكومة الإغاثة !! والمياه الراكضة ولدت سحباً من البعوض، تفشت بسببه الملاريا، ومختلف الأوبئة،والغلاء الفظيع ينهش عظم الفقراء.. و أواسط الناس من المعلمين،والموظفين، والعمال، لا يجدون الوجبة في اليوم إلا بشق الأنفس،في هذه الظروف القاهرة، القاتلة، نسمع الفقهاء والأئمة في المساجد، يحثون الناس على " "الأضحية"، ويؤكدونها لهم، وكأنها وأجب ديني، أو سنة نبوية !! بل إن من هؤلاء (العلماء) الجهلة من أفتى بصحة الأضحية بالأقساط !! هذا مع أن "الضحية" في الإسلام ليست واجبة على الفقراء أو الأغنياء !! من أين جاءت عادة " الضحية" ؟! لقد كانت عادة تقديم القربان الى الآلهه، عادة قديمة، متأصلة في المجتمعات الوثنية القديمة، وكان القربان في العهود الماضية، يقدم الى الآلهة من البشر، وذلك لكثافة الناس، وغلظتهم، ولقد استمر هذا المعتقد الوثني في الدين بعد مجئ مرحلة التوحيد .. جاء عن ذلك ( ولما كان الفرد البشري الأول غليظ الطبع، قاسي القلب، بليد الحس، حيواني النزعة فقد احتاج إلى عنف عنيف لترويضه، ولنقله من الإستيحاش إلى الإستيناس، وكذلك كان العرف الإجتماعي الأول، شديداً عنيفاً، يفرض الموت عقوبة على أيسر المخالفات، بل إنه يفرض على الأفراد الصالحين أن يضعوا حياتهم دائماً في خدمة مجتمعهم، فقد كانت الضحية البشرية معروفة تذبح على مذابح معابد الجماعة، إستجلابا لرضا الآلهة، أو دفعا لغضبها حين يظن بها الغضب، ولقد كانت هذه الشريعة العنيفة، في دحض حرية الفرد، في سبيل مصلحة الجماعة معروفة ومعمولا بها، إلى وقت قريب، ففي زمن أبي الأنبياء، إبراهيم الخليل وهو قد عاش قبل ميلاد المسيح بحوالي ألفي سنة، كانت هذه الشريعة لا تزال مقبولة ديناً وعقلاً، فإنه هو نفسه قد أمر بذبح إبنه إسماعيل، فأقبل على تنفيذ الأمر غير هياب ولا متردد، فتأذن الله يومئذ بنسخها فنسخت، وفدي البشر بحيوانية أغلظ من حيوانيته، وكان هذا إعلاما بأن ارتفاع البشر درجة فوق درجة الحيوان قد أشرف على غايته، ولقد قص الله علينا من أمر إبراهيم وإسماعيل فقال " قال إني ذاهب إلى ربي سيهديني * رب هب لي من الصالحين * فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أنى أذبحك، فانظر ماذا ترى، قال يا أبتي افعل ما تؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين * فلما أسلما وتله للجبين * وناديناه أن يا إبراهيم * قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين * إن هذا لهو البلاء المبين * وفديناه بذبح عظيم * وتركنا عليه في الآخرين * سلام على إبراهيم". ""وتركنا عليه في الآخرين" تعني، فيما تعني، إبطال شريعة العنف بالفرد البشري، لأنها لبثت حقبا سحيقة، وقد تم انتفاعه بها، فارتفع من وهدة الحيوانية وأصبح خليقاً أن يفدى بما هو دونه من بهيمة الأنعام)(محمود محمد طه : الرسالة الثانية من الإسلام ص29) ولقد أصبحت التضحية بالحيوان، بدلاً عن الإنسان، في التقرب الى الله، سنة ابراهيم عليه السلام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم، لما سأله أصحابه: ما هذه الأضاحي؟؟ قال: سنة أبيكم إبراهيم!!(سنن إبن ماجة، الجزءالثاني، صفحة 26، وتفسير إبن كثير لسورة الحج، الجزء الرابع، صفحة 641) .. ولما جاء عهد النبي الكريم، كانتحكمة الضحية بالحيوان، من أجل التقرب الى الله، قد أشرفت، هي أيضا، علي غايتها، فلم يعد الله يقبل تقرباً بالدم، وإنما أصبح العلم هو وسيلة التقرب الى الله .. فضحي النبي صلى الله عليه وسلمببهيمة الأنعام، ختما لسنة أبيه إبراهيم، في الفداء بالحيوان، وإفتتاحاً للعهد الذي تنتهي فيه عادة القربان الحيواني. ولقد فدى الرسول صلى الله عليه وسلم أمته بأن ضحى عنها، فأسقط الضحية عن كل أفرادها !! جاء فى تفسير ابن كثير، الجزء الرابع، صفحة 642 (عن على بن الحسين عن أبى رافع أن رسول الله صلى الله عليه كان إذا ضحى إشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين، فإذا صلى وخطب الناس أتى باحدهما وهو قائم فى مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية، ثم يقول: "اللهم هذا عن أمتى جميعها، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لى بالبلاغ" ثم يؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ثم يقول: "هذا عن محمد وآل محمد" فيطعمهما جميعاً للمساكين، ويأكل هو وأهله منهما. رواه احمد ، وابن ماجة ..) ثم يمضى ابن كثير فيقول، فى صفحة 646: (وقد تقدم أنه عليه السلام ضحى عن أمته فأسقط ذلك وجوبها عنهم). فالنبى الكريم بضحيته، عنه، وعن آل بيته، وعن أمته، إنما فعل سنة ابيه ابراهيم، ولكنه لم يستن الضحيه إبتداء .. فعل سنة ابراهيم ليختمها، ويفدى عنها أمته، وافتتح بذلك عهداً جديداً هو عهد التقرب الى الله عن طريق العلم لا قتل الحيوان!! وهو فى نفس الوقت، إنما جارى عادة سائدة، فهذبها، وتسامى بها، وفتح الطريق الى ما هو خير منها .. ومما ورد أيضاً جاء في (سبل السلام)، صفحة 96: (و أخرج البيهقي من حديث عمرو بن العاص أنه صلي الله عليه وسلم قال لرجل سأله عن الضحية وأنه قد لايجدها، فقال: (قلم إظافرك، وقص شاربك، وأحلق عانتك، فذلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل!!) رواه ايضا ابو داؤود فى (سنن ابى داؤود الجزء الثالث ، صفحة 93). وفى هذا الحديث اشارة لطيفة، الى استبدال الضحية بالحيوان، بعمل علمي يتجه الى تهذيب الإنسان من بقايا الموروث الحيوانى، وهو الشعر والاظافر، مما يفتح الطريق أمام قيمة جديدة هى أن يفدى الإنسان نفسه، بتهذيب نفسه لا بكائن خارجه، سوى أن كان إنساناً أو حيواناً!! ولقد ثبت في كتب المفسرين، أن كبار الأصحاب كانوا لا يضحون،بما في ذلك الموسرين منهم .. جاء فى تفسير ابن كثير الجزء الرابع صفحة 646 (وقال ابو سريحة "كنت جارا لإبى بكر وعمر وكانا لايضحيان خشية أن يقتدى الناس بهما") وجاء فى "سبل السلام" الجزء الرابع صفحة 91: (وافعال الصحابة دالة على عدم الإيجاب – إيجاب الضحية – فأخرج البيهقى عن أبى بكر وعمر رضى الله عنهما أنهما كانا لا يضحيان خشية أن يقتدى بهما) وجاء فى "الاعتصام" للشاطبى الجزء الثامن صفحة 91 (وكان الصحابة رضى الله عنهم لا يضحون – يعنى أنهم لا يلتزمون)( الخطوط من وضع الكاتب). فلو لم تسقط الضحية عن الأمة لكان الأصحاب وعلى رأسهم الشيخان، أولى الناس بادائها .. وقد جاء أيضاً في"بداية المجتهد ونهاية المقتصد"، الجزء الأول، صفحة 464: (قال عكرمة: بعثني إبن عباس بدرهمين إشتري بهما لحما، وقال: من لقيت فقل له هذه أضحية إبن عباس!! وروي عن بلال أنه ضحي بديك!!) وجاء في " سبل السلام" صفحة 91 (وقال طاقوس: ما رأينا بيتا أكثر لحماً وخبزاً وعلماً من بيت إبن عباس، يذبح وينحر كل يوم، ثم لا يذبح يوم العيد). أما عبد الله إبن مسعود فلم يدع قط حجة لمحتج بوجوبها، لا علي المعوزين، ولا علي الموسرين!! فقد روىالشاطبي في "الإعتصام"، الجزء الثاني صفحة 91: (و قال إبن مسعود: أني لأترك أضحيتي، وإني لمن أيسركم، مخافة أن يظن الجيران أنها واجبة!!) فإذا كان الحج، وهو من أركان الإسلام، قد فرض بشرط الإستطاعة، قال تعالى في ذلك (فِيهِ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)، فهل يمكن أن يفهم أن الأضحية وهي غير واجبة ديناً، ولم يفعلها أثرياء الأصحاب، كما أوضحنا، يجب أن يستدان لها، فيرهق رب الأسرة نفسه بأقساط أو ديون تضطره الى أن يعجز عن رسوم المدارس، أو إيجار المنزل، أو الكهرباء، أو الماء؟ هل يعيد الناس بناء بيوتهم التي دمرتها الأمطار ولم تعنهم الحكومة على إعادة بنائها أم يهدرون ما لديهم من مال في الضحية ؟! أنّى يصرف هؤلاء (العلماء) الجهلة عن القاعدة الأصولية، في جوهر الدين، وهي قوله تعالى (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ؟!
لماذا لا يتحدث (العلماء) عن سبب الغلاء ؟! لماذا لا يدينون من أشعل الحروب في مناطق الإنتاج الزراعي، في جنوب كردفان والنيل الازرق، واضطر المزارعين للنزوح وترك الزراعة ؟! لماذا لا يدينون قصف القرى الآمنة بالطائرات، وقتل الشيوخ والأطفال وإغتصاب النساء وأهلاك الحرث والنسل ؟! لماذا لم يدينوا تدمير مشروع الجزيرة، وبيعه، وتشريد أهله، الذين اصبحت أسرهم تشتري "ملوة" العيش، بعد أن كانت تنتج عشرات الجوالات من القمح ؟! لماذا لم نسمع الى خطبة واحدة، تدين حكومة الاخوان المسلمين حين قتلوا طلاب المدارس، في شوارع الخرطوم، بالرصاص، بدم بارد، ليخمدوا مظاهرات سبتمبر التي خرجت تدين الغلاء؟! لماذا لم نسمع خطيباً واحداً، يدين توطين الأرتريين في كسلا، وإعطاءهم الرقم الوطني، والسماح لهم بشراء الأراضي،والبيوت، ليصوتوا للمؤتمر الوطني، حتى أصبح مواطني كسلا، غرباء في وطنهم ؟! لماذا لم نسمع إماماً، في أي مسجد، يدين توطين قبائل دول غرب أفريقيا، في "حواكير" مواطني دارفور، الذين شردتهم حروب الجنجويد، وجعلتهم يعيشون في المعسكرات، لأن هذه القبائل غير السودانية، تمثل معظم قوات المليشيات، التي تخوض الحرب نيابة عن المؤتمر الوطني ؟! لماذا لم نسمع (علماء) السودان يدينون الفساد ؟! فقد جاء ( عبد الله حسن أحمد البشير شقيق الرئيس يملك الشركات الآتية : عفراء مول- شركة سودابل-شركة النيل للأسمنت- شركة لاري كوم- شركة نهر شاري- شركة زوايا للخدمات الطبية والبيطرية-شركة زوايا لصناعة الطوب- شركة زوايا للصناعات الغذائية-شركة زوايا للخدمات- شركة زوايا الهندسية- شركة زوايا للمعلومات وتقنية الاتصالات- مجمع رهف السكني-مصنع الروابي للألبان والعصائر-فندق السلام روتانا-توت كير لمستلزمات الأطفال وشركة النيل للأسمنت)(وسائل التواصل الاجتماعي). لماذا لم نسمع واعظاً يتساءل من أين لشقيق الرئيس كل هذه الشركات؟! فإذا صمت (علماء) السودان عن كل هذا الظلم، والجور، والفساد، ولم يفتح الله عليهم بكلمة حق، في مواجهة الباطل، فمن الذي يحترم فتاويهم، ويصدق دعاويهم ؟!ّ إن ما يمنع المواطنين من "الأضحية" هو الفقر المدقع، والغلاء الفاحش، وذلك لأن ثروة الشعب قد نُهبت وتجمعت في أيدي أفراد الحزب الحاكم، والأقرباء، والمحاسيب، الذين نراهم يتطاولون في البنيان، بلا رقيب أو حسيب .. إن حكومة الاخوان المسلمين، لم تحرم الشعب من "الاضحية"، وإنما حرمته من ما هو أهم، حرمته من ضرورات الحياة، وحولت الشعب نفسه الى "ضحية"، تصل الى حد الموت الذريع، في الشوارع، بغير جريرة، ومن لم يقتل مباشرة، أعتقل،وعذّب أو طرد من عمله، وحورب في رزقه، حتى ترك وطنه، ثم هي تشعل الحروب في أطراف الوطن، وتقتل الناس في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، وتسكن أجانب مكان المواطنين، وتبيع لهم البلد، حتى يصبح أهلها لاجئين .. لقد علم العلماء الحقيقيون، من الأصحاب، أن "الاضحية" غير واجبة، لا على الفقراء ولا على الأغنياء، فلم يضحوا، و أبانوا ذلك .. واليوم، فإن حكم الوقت، يجعل "الأضحية" ليست غير واجبة فحسب، وإنما عادة إجتماعية سيئة، حتى من القادر عليها .. وذلك لأنه يدفع جاره غير المستطيع، الى تكلف الشطط، حين يرى أطفاله اللحم في أيدي أبناء الغني فيتأثروا بذلك .. وهذا ما جعل أغنياء الأصحاب كأبن عباس لا يضحون. إن هذه الآثار الاقتصادية والإجتماعية الضارة للضحية، تجعلها أمراً مرفوضأ دينياً وأخلاقياً، ويجب تركة والتواصي بتركه .. فإن الدماء التي تهرق في الشوارع، واللحوم التي تقطع على أبواب المنازل، فتجمع الذباب والأمراض، لن تصل الى الله، وإنما تصله التقوى .. والتقوى لا تقوم إذا لم نراع جيراننا، ونقدر ظروفهم ، ونترك "الضحية" حتى لا يتأذى أطفالهم .. إقرأوا قوله تعالى (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ). د. عمر القراي
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة