إن الساحة السياسية تشهدا صراعا سياسيا حول البعد السياسي لمخرجات الحوار الوطني، و كيفية الوصول لتوافق بينهم، من خلال تقديم تنازلات مشتركة، تعطي بعدا إصلاحيا، بعيدا عن عملية تغير جوهري في طبيعة النظام القائم و مرتكزاته، الأمر الذي جعل هناك حوارات دائرة رافضة لفكرة الإصلاح في القضية الوطنية، و تعتقد إن المشكل الوطني يحتاج لعملية تغيير جذري لكي يؤسس لوطن حديث مستقر، لذلك تأخذ الحوارات أشكالا ثنائية، و تحالفات صغيرة بدأت تتشكل نتيجة لذلك، حيث هناك معلومات بدأت تصل مسامع البعض، إن الحوار في مفهوم بعض قيادات أهل الحكم، تعني عملية إصلاحية للنظام القائم، لكي يتسع لمشاركة الآخرين، و الإصلاح يختلف مفهوما و مدلولا عن مصطلح التغيير، حيث إن التغيير يهدف إلي تحول جذري من دولة الحزب إلي التعددية السياسية، لذلك كل القضايا سوف تقوم و تؤسس علي قاعدة الديمقراطية، أم قضية الإصلاح لا تغير في النظام شيئا من حيث جوهره، و لكن تصلح ما يعتقد إنه يشكل خللا في طبيعة المسير، وهذه تشكل قناعة عند أهل السلطة و حلفائها من جانب، و في الجانب الآخر الذي تمثله المعارضة التي وقعت علي خارطة الطريق، يعتقد البعض إنها ساعية إلي عملية تقاسم السلطة و الثروة مع الحزب الحاكم بمعاونة دولية. لذلك خرجت فكرة ما يسمي ب " الوثيقة الوطنية" و هي فكرة تجعل من الهوية أساسا لعملية بناء المشروع الوطني، و تقوم علي التأكيد علي ديمقراطية الدولة، و احترام حقوق الإنسان، و وقف الحروب والنزاعات، و الاعتراف بالمكونات الثقافية المتنوعة في السودان، الوقوف ضد تصورات و مفاهيم الدولة الثيوقراطية التي ينادي بها البعض. و يعتقد أهل الفكرة، أن تكون " الوثيقة الوطنية" بمثابة نواة لمشروع سياسي وطني، يفتح حوارا بين النخب السودانية علي مختلف تياراتها الفكرية، و تنظيماتها السياسية، بعيدا عن الفعل الأيديولوجي، حيث إن الوثيقة لا تميل إلي مجموعة دون الأخر، بقدر ما تعبر عن حس وطني يبحث عن مخرج للأزمة الوطنية، بعيدا عن الأجندة الحزبية، القائمة علي فرض الشروط، و هي تشكل محور لحوارات و نقاشات يخرج منها ملامح المشروع الوطني،و هي ليست بديلا عن الحوار الوطني الذي تسعي إليها القوي السياسية، و لكنها تحاول أن تخلق رأيا عاما حول مرتكزات أساسية للدولة الوطنية لا يمكن تجاوزها، و جاءت فكرة " الوثيقة الوطنية" من بعض القوي السياسية التي كانت قد شاركت في الحوار الوطني الذي جري في الخرطوم، و تعتقد إن هناك بعض القوي تحاول أن توجه الحوار الوطني لكي يحقق أهدافها، كما إنها تشك في أن بعض قوي المعارضة تريد أن يصبح الحوار الوطني " نيفاشا2" أي ثنائيا الدولة التي حصلت بعد اتفاق " نيفاشا" لذلك هي تنادي أن يكون هناك اتفاقا عاما بين القوي السياسية، إضافة إلي منظمات المجتمع المدني، و كل النخب الساعية إلي الدولة الديمقراطية الوطنية التي يتراضى عليها الناس، و هؤلاء يصبحون قاعدة الوثيقة الوطنية. إن فكرة "الوثيقة الوطنية" التي بدأ الحوار حولها بين قوي سياسية و نخب كانت قد شاركت في الحوار الوطني، و بالفعل قد كتبت مسودتها، أنها تريد أن تجهض تلك المشاريع الهادفة إلي تسوية سياسية، بديلا عن التغيير السياسي الديمقراطي، الذي يؤسس لدولة وطنية حقيقية و ليست دولة تيارا سياسيا واحدا مع مشاركة قوي ليس لها قاعدة اجتماعية. و الوثيقة تعتبر فهما متطورا و نقلة في طبيعة التفكير السياسي المنهجي. حيث إن فشل النخب في بناء الدولة الوطنية المستقرة يعود إلي تمسكها بالأيديولوجية التي فقدت بريقها، و تحولت إلي فشل سياسي في بعديه اليساري و اليميني، نظرا لمسار التاريخ السياسي في السودان. و هذا ما أكده مصطفي محمود رئيس تحالف القوي الوطنية لجريدة " الجريدة" و نشرته يوم الجمعة قال (إن التيار المناوئ للحوار الوطني داخل الحكومة و المعارضة اختطفوا الحوار الوطني و تحويله من مشروع وطني سوداني إلي مشروع تسوية سياسية، و حذر من أن تسوية المرتقبة تصب في مصلحة الأجنبي الذي يسعي لتمزيق المنطقة) و يعتقد أصحاب " الوثيقة الوطنية" إن الحوار الوطني الذي جرى، و رغم إن قوي المعارضة الممانعة لم تشارك فيه، لكنه خلق رؤية سياسية للدولة الوطنية في أذهان الناس، بعيدا عن الدولة الشمولية التي كانت نتاجا لفكرة الإسلام السياسي و اليسار التقليدي، و هي فكرة قد فشلت في الواقع تماما، و الذين يتمسكون بها هم الذين يدافعون عن مصالحهم الشخصية، و لا يحملون أية تصور للدولة الوطنية. و إن قوي المعارضة التي بنت تحالفها علي أن يكون الاختلاف بينها هو القاعدة السياسية التي تبني عليه عملها السياسي، هؤلاء أيضا لفقدهم التصور العام لعملية التغيير، أيضا يبحثون عن تسوية سياسية تنقلهم من المعارضة إلي المشاركة السياسية في الحكم، لذلك يؤكدون إن الوثيقة الوطنية هي مقترح " Draft " تحتاج لحوار يهدف لتطويرها، لكي تصبح مشروعا وطنيا، يتقاطع مع تلك الإرهاصات القائمة، و التي تريد أن تقدم بعض المسكنات، و أن تجعل الأزمة قائمة. و وعد هؤلاء أن يطرحوا الوثيقة بعد مداولاتها بينهم و تكملة صورتها النهائية للرأي العام، و النخب السياسية لكي تبدي الرأي حولها، و أيضا أن تخلق رأيا عاما حول أهم ركائز الدولة الوطنية التي تقوم علي التعددية السياسية، و تصبح هي القاعدة التي يصاغ عليها الدستور. إن أهم عامل يجعل الأزمة السياسية في السودان تتعمق أكثر و لا تجد طريقها للحل، هو الخطاب السياسي المتراجع دوما و المتناقض، و الذي لا يسبر عمق المشكل بل يحاول أن يتعرض لهوامش المشكلة، فمثلا قضية عدم الثقة ناتجة عن إن القوي السياسية لا تريد أن تفصح عن تصوراتها لقضية الحكم و تحاول أن تناور فقط، فالقوي التي خرجت من الإسلام السياسي " المؤتمر الشعبي و المؤتمر الوطني و الإصلاح الآن و التغيير و غيرها" تتحدث عن إصلاح سياسي يقوم علي توسيع دائرة الحريات، و مشاركة عريضة في الحكم، و تخفيف القبضة الأمنية، و إصلاح الاقتصاد، و الاعتراف بالتنوع الثقافي، و لكنها لا تعرج لقضية الدولة الديمقراطية، الأمر الذي يؤكد إنها ما تزال تتبني فكرة دولة الحزب الواحد. و في جانب المعارضة رغم إن خطابها السياسي ملئ بشعارات الديمقراطية و التحول الديمقراطي، و التغيير من دولة الحزب للدولة التعددية. لكن واقع حالهم يؤكد إنهم بعيدين عن ممارسة الديمقراطية داخل تنظيماتهم السياسية، و إلا كانت هذه الشعارات قد انعكست كواقع ممارس داخل هذه الأحزاب. هذا التناقض في الخطاب السياسي يبين أن القوي السياسية تبحث عن مصالح حزبية و شخصية و لا تبحث عن المصلحة الوطنية، التي يجب أن يشارك فيها كل الناس و يجدون أنفسهم فيها. إذا هل الوثيقة الوطنية سوف تكون مخرجا سياسيا؟ أم إن النخبة السودانية ما تزال في حالة إدمانها للفشل كما وصفها الدكتور منصور خالد...! نسأل الله حسن البصيرة. نشر في جريدة الجريدة الخرطوم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة