هل قوضت الإنقاذ أمل السودانيين بإنتفاضة تعقبها ثورة تعيد وضع البلد لمكانه الطبيعي بين الشعوب؟ لقد توفرت كل الظروف الموضوعية الملموسة لقيام إنتفاضة، من غلاء طاحن لا يختلف عليه اثنان، إلى تدهور في كافة الخدمات الأساسية في حياة الناس من صحة وتعليم وحريات أساسية وتراجع تراجيدي في قيمة الجنيه السوداني إلى هجرة غير مسبوقة أفقرت البلد من كوادره المدربة في قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم بكل مستوياته إلى القضاء والمحاماة والإعلام والهندسة، وغيرها من المهن المهمة لنهضة الأمة. على الرغم من كل ذلك، فإن الإنتفاضة تبدو حلماً بعيد المنال. فلماذا؟ منذ بداياتها في السلطة، حرصت الإنقاذ على الجانب الأمني. وقد نسجت للأمن شبكة واسعة تبدأ باللجان الشعبية في الأحياء، كمفرزة أولية للعمل الأمني، وتتصاعد وصولاً إلى الشارع والسوق وأماكن العمل. بذلك اقصي كل من تحوم حوله الشبهات من وجهة نظر الإخوان المسلمين، وبذلك أمكن تنفيذ سياسة التمكين في كافة مرافق الدولة وفي سوق العمل الحر أيضاً. ومن النتائج التي لم تحسب الإنقاذ لها حساباً تحول الأمن إلى بند رئيسي في ميزانية الدولة، مستنزفاً موارد كان أحرى بها أن توجه للتنمية الاجتماعية الاقتصادية التي تشتد حاجة الناس إليها. ومن نتائج ذلك أيضاً زيادة معدلات الفساد، إذ يتصرف أهل الإنقاذ كما لو أن البلد بلدهم، ومن حقهم أن يتصرفوا كيفما شاءوا دون الوقوع تحت طائلة المحاسبة. ومن نتائج ذلك، إحساس الآخرين بأنهم غرباء في وطنهم، مما يدفعهم للسلبية في أغلب الأحيان. وهكذا تعطلت عجلة الاقتصاد بعدما توقف الإنتاج توقفا تاما في كل القطاعات، وتحول شعار «نأكل مما نزرع»، الذي رفعته الإنقاذ في أول عهدها، إلى أكبر كذبة في تاريخ السودان، وهي كذبة واحدة من بين أكاذيب لا تحصى عددا ارتبطت بالإخوان المسلمين في ممارستهم للسلطة. في هذا السياق أيضاً شلت النقابات، واحيلت إلى أدوات في خدمة السلطة ومن الداعين، سرا وعلانية، لسيادتها وهيمنتها على الشارع. إذ كانت النقابات، طوال تاريخ السودان الحديث، تحظى باستقلال نسبي عن دولاب الحكومة، الأمر الذي يجعلها من أبرز أدوات الضبط وتصحيح مسار الحكومة وأدائها. فعلى امتداد فترات الديمقراطية، كانت الحكومات تخشى مصاولة النقابات، وتحسب لها كل حساب عند إتخاذ القرار. ربما يكون ذلك سببا في بطء عملية إتخاذ القرار والتردد الذي يستصحبها في عهود الديمقراطية، بيد أنها وقفت سداً منيعاً أمام الفساد وقلصت من تمدده. أما الإعلام، وخاصة الصحف، فقد استتبعته الحكومة لحزبها الحاكم، وتركته بلا حول ولا قوة. وهي تطبق عليه طائفة من سياسات التركيع، تبدأ بتوزيع الإعلانات على من يحقق مبتغاها ويسبح بحمدها، وتتدرج إلى شراء الذمم، تعقبها مصادرة صحيفة من يبدي ممانعة لا تلين، والتضييق على المعارضين تضييقاً يبعدهم عن السودان كليةً. وتتجه الإنقاذ الآن للقضاء على الجامعات بوصفها آخر قلاع مناهضة النظام. وقد بدأوا بتقتيل الطلاب في مظاهرات سبتمبر ٢٠١٣م، ثم تلتها الإجراءات التعسفية في حق الطلاب في أبريل الماضي، وباتت الحكومة قاب قوسين أو أدنى من تنفيذ حزمة صارمة تنتهك بها حريات الطلاب أيما انتهاك، وتشمل الحرس الجامعي المدجج بالسلاح والمخول له التدخل وإطلاق النار. وترى الإنقاذ، بل وتعمل بجدية، للتخلص من الدور التقليدي للطلاب في قيادة الحراك المجتمعي، مثلما حدث في ثورة أكتوبر وإنتفاضة أبريل. وبذلك يستطيع الإخوان أن يهنأوا باستدامة حكمهم أطول فترة رغماً عن الفساد والتدهور الذي قضى على حيوية السودان ووضعه في ذيل الدول من جهة الاقتصاد ومن جهة التعليم والصحة والتنمية البشرية، وكل مؤشرات الأداء القائمة على الحقائق المجردة دونما دغمسة وشعاراتية فارغة. لكن القضاء النهائي على ثورة الشعب يبدو أمراً مستحيلاً. فكل ما تستطيعه الإنقاذ لا يتجاوز تمديد فترة معاناة الشعب. وكلما تمددت فترة معاناة هذا الشعب، وبحكم عبقريته الراسخة تاريخياً، تعذر التنبؤ بشراسة رد فعله وما ينطوي عليه من عواقب. الإنقاذ تدرك ذلك، ومن هذا المنطلق تحذر كثيراً من مغبة دخول السودان في فوضى أسوة بدول ما يعرف بالربيع العربي، وبالتالي تحث الناس على الإبقاء عليها بوازع المفاضلة بين أمرين أحلاهما مر! وتلك فرية لا تنطلي على عاقل، إذ لم يعرف السودان التقسيم والحروب الأهلية متعددة الجبهات إلاّ في عهد الإنقاذ، وليس هناك ما هو أشد هولا من ذلك. الآن، فإن كل ما نستطيع قوله إن وسائل التواصل الاجتماعي المنتشرة حالياً من الممكن أن توفر فضاءا بديلاً يكون عوضاً عن غياب المجتمع المدني، فيما لو أحسن استغلال هذه الوسائط ووظفت توظيفاً جاداً ينأى بها عن فرط المزاح والتسلية. فطالما أننا على يقين تام أن المواطن الغلبان يئن تحت وطأة معيشة صعبة ويجد نفسه عاجزا أمام قيود لا حصر لها، دعونا نضحي بالمزاح والتسلية إلى حين! ومن أجل المواطن المغلوب على أمره، وهو جدير بكل تضحية مهما عزت.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة