حينما قررت وزارة التربية في وقت سابق استخدام الراديو والتلفزيون في بث الدروس التعليمية، سخر بعض الناس من ذلك واخذوا يتساءلون: "فاين القراءة والكتابة؟" فهم لا يتخيلون التعليم بدون كراسة "يشخبط" فيها التلميذ ويعرضها علي المعلم؛ وتخوفوا من الرجوع الي الامية!!
المشكلة ان البعض يحسب التعليم قراءة وكتابة، والنظام التعليمي العقيم يقيّم التلميذ والاستاذ بما يُكتب علي الكراسات والاوراق، مع ان العرب الاوائل الذين هم رواد الحضارة الانسانية كانوا اميين لا يكتبون ولا يقرأون؛ بل انني اعتقد ان سر قوة الحضارة العربية كانت في الامية نفسها، فقد كان العرب يفصلون بين العلم وبين معرفة رموز الكتابة، فتخيل عالِما في الطب او الهندسة او الرياضيات لا يعرف الكتابة وانما يملي ما يريد ان يكتبه لشخص اخر، وهذا الآخر يقرأ له المكتوب، فكانوا يتخذون كُتّابا كما يتخذ الآن بعض وجهاء المجتمع الآن سائقين لسياراتهم وترون في المسلسلات التاريخية ان الأمير او السلطان يعطي الرسائل لكاتبه ليقرأها له، واذا اراد ان يبعث رسالة املاها للكاتب، فالكتابة كانت مهنة وضيعة؛ هذا الأمر قد يستغربه الناس، ولكنها الحقيقة، فالعرب (امة امية) كما قال النبي (ص).
لاحظت ان الاطفال يدخلون المدرسة بذاكرة حفظ قوية واستعداد كبير للفهم، ولكن ما ان يشرعوا في تعلم الرموز الكتابية، حتي تبدأ أذهانهم في التبلّد وتضعف ذاكرتهم لان الرموز الكتابية تشوش عليهم، فبدلا من ان يركز الطفل اهتمامه في مفاهيم الاشياء ومسمياتها يركز علي اشكال حروفها، فعندما يسمع مثلا كلمة "شجرة" يكوّن ذهنه صورة باهتة لشجرة وصورة أوضح لشكل الكلمة الكتابي، فربما يستدعي ذهنه السين فيستبعدها ليأتي بالشين وتأتي صورة التاء المفتوحة فالمربوطة..الخ، هذا ما يعانيه الطفل، ولذلك دائما ما تجد الاطفال الكفيفين اكثر تركيزا وفهما واسرع حفظا واستيعابا، وكان العربي الامي يحفظ قصيدة من عشرات الابيات ربما من سماع واحد؛ وليس من قبيل المصادفة ان يكون طه حسين عميد الادب العربي كفيفا، فالكفيف لا يحمل همّ تصور الرموز الكتابية وقواعد الاملاء؛ والاطفال الاصغر سنا الذين يُقبَلون مستمعين اشطر من غيرهم في فهم المعلومات واستيعابها واستحضارها.
وددت لو ركزت التربية في السنين الاولي علي التعليم الشفهي علي الاقل الي ان يستوعب التلاميذ اسماء ومفاهيم الاشياء ويستطيعوا ان يعبروا عن انفسهم بطلاقة، وحتي يتعودوا سرعة الفهم، وفي هذه المرحلة يمكن ان يكون التقويم شفاهيا.
الكتابة وسيلة وليست غاية، لا سيما في ظل اتاحة نقل المعرفة عن طريق الملفات الصوتية و المرئية بدلا من النصوص الكتابية؛ وعليه فان استخدام الاذاعة والتلفزيون لبث الدروس عن طريق مواد صوتية او مرئية أمر جيد، بشرط الا يُقحم التلاميذ في السنين الاولي في مسألة الكتابة والقراءة.
لا ينبغي الخلط بين مفهوم اخذ العلم وبين القراءة، فالكثيرون يظنون انه حينما قيل للرسول (ص): "اقرأ" قُصد من ذلك ان يقرأ شيئا مكتوبا، وهذا ليس صحيحا فالرسول (ص) كان اميا، ولكن الامر: (اقرا باسم ربك) معناه ان يبيّن للناس ويبلغهم ما اوتي من علم عن الرب الخالق، وقد ذكر القرآن فيما بعد امتنان الله عليه بالعلم: (.. ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان)، وهكذا صار النبي محمد اعلم اهل الارض، مع انه اميّ!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة