إن مليونية ٢١ أكتوبر علامة فارقة في مسيرة الثورة السودانية، رفعت منحنى المد الثوري إلى ذروة عالية. وفي الحقيقة أنها لم تكن مليونية بل مليونات عديدة في كل أنحاء السودان، وقد فاقت من حيث الحشود مليونية ٣٠ يونيو ٢٠١٩ التي أعادت الاتزان للمد الثوري، ولم تستثمره قحت وقتها الاستثمار الأمثل . وكانت مؤشرات نجاح هذه المليونية ظاهرة للعيان جراء أفاعيل البرهان ومكونه العسكري، ونتاج التسخينات التي نظمتها لجان المقاومة في الأيام السابقة، وكنت حضورا في تسخينة حركة بلدنا بميدان الرابطة بشمبات يوم الاربعاء حيث شاركت لجان مقاومة شمبات والعديد من لجان مقاومة بحري. إن ذاكرة الشعب السوداني لا تزال مثخنة بدماء مجزرة فض اعتصام القيادة العامة، وغيرها من المجازر، والتي يتحمل مسئوليتها البرهان وآل دقلو والكباشي وياسر العطا وجهاز الأمن وفلول الكيزان. وتم نكأ الجراح بمحاولات المكون العسكري مواصلة الانقلاب بانتاج مسرحيات الارهاب، وصناعة تسعة طويلة، وإغلاق الميناء، واعتصام الموز، والسعي الدءوب لخنق الحكومة وإفشال الانتقال الديمقراطي. في ٢١ أكتوبر حافظت ثورة ديسمبر على ديدنها وسمتها الأساسية بمشاركة كل انحاء السودان فيها، إذ أنها أصلا بدات من الأقاليم . كانت الأبيض حاضرة بمليونية لم تستطع الكاميرا الهوائية الإحاطة بها، وإذا وضعنا عامل الكثافة السكانية في الاعتبار فإن مليونية الأبيض هي الأضخم بلا منازع، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. ولتبيان مشاركة الريف السوداني فسأتخذ من ولاية القضارف نموذجا. كانت المليونية غير مسبوقة في مدينة القضارف، أرض الشهداء، ولم تكن حاضرة الولاية وحدها في المقدمة، بل زاحمها ريف الولاية في حاضراته العديدة. كانت الفاو، أرض الشهيد أحمد عدلان، في الموعد بموكبها الذي احتشدت فيه العديد من القرى. كما كانت محلية الفشقة في الصفوف الأمامية، وكذلك المفازة وباسندة ومدينة القلابات الحدودية، وفي دوكة حاضرة محلية القلابات الشرقية، والرهد. وشاركت بعض المحليات في موكب مدينة القضارف بلافتاتها ومنسوبيها مثل تيار البطانة القومي ، ولجان مقاومة القلابات الغربية، وقحت ولجان مقاومة محلية وسط القضارف، وغيرهم. كان المطلب الأساسي المتفق عليه في كل أنحاء السودان هو دعم التحول المدني الدينقراطي ورفض حكم العسكر والكيزان، وقد حُظي السفاح البرهان بالنصيب الأكبر من الهتافات المنارئة واللعنات . لقد شاركت شخصيا في المليونية الهادرة بشارع الستين بالخرطوم، وقد كانت الحشود البشرية لا بداية لها ولا نهاية. تحركت في الشارع بالكرسي المتحرك حتى نفدت كهرباؤه ، ثم امتطينا بوكسا لمسافة وتوقفنا ولم تتوقف حركة الثوار لساعات إذ أن الموكب لا حدود له . كان الحماس والتفاؤل في شارع الستين في أعلى درجاته. كانت معظم الشعارات مع المدنية الكاملة، وضد المكون العسكري بالذات البرهان، وضد فلول المؤتمر الوطني، وضد اعتصام القصر المصنوع. وطالب الثوار بالقصاص للشهداء. وكانت هنالك شعارات درامية ساخرة مثل رفع كوز وموز على عصاة مع هتاف (جيبو الكوز الاكل الموز). وقد ميّز الثوار بين مؤسسة الجيش وبين قيادته المجرمة بتكرار هتاف "الجيش جيش السودان.. الجيش ما جيش برهان). ولقد صوّب الثوار هتافاتهم تجاه العدو الرئيسي ألا وهو المكون العسكري، وتناسوا أو أجلوا خلافاتهم الأخرى مع قحت، وهذا يدلل على وعي ثوري كبير. بل أنهم أكدوا ألا فرق بين البرهان والكيزان، حين هتفوا (برهان مالو؟ برهان وسخان.. الجابو منو؟ جابو الكيزان). وقد كان هنالك موكبا لراكبي الدراجات البخارية، لا يخلو من مخاطر. وقد اختفت أعلام الأحزاب من موكب شارع الستين، ولم يبق سوى علم السودان مرفرفا في كل الأنحاء، ويتواجد العلم القديم ولكن بندرة. ويلاحظ، بصورة عامة أن حدة الصراع في الريف بين الحرية والتغيير من جانب ولجان المقاومة وقوى الثورة الأخرى من الجانب الآخر، أقل حدة من المدن، ربما لأنهم جميعا مهمشون من مراكز النفوذ السياسي في الخرطوم وعواصم الولايات. إن مسار الثورة بعد مليونية ٢١ إكتوبر ٢٠٢١ لن يكون كما قبلها، ستميل الكفة بصورة أكبر تجاه المدنية، ولم يتبق للشعب السوداني أدنى عشم في المكون العسكري ، وقد ازدادت معدلات كراهيته بصورة غير مسبوقة، وأصبح رحيلهم ومحاكمتهم مطلب كل الشعب . ولا شك أن المكون العسكري قد أساء للجيش أيما إساءة بلسان حاله ولسان مقاله، إذ أنهم ينسبون كل جرائمهم للجيش، والجيش بريء مما يفعلون. ولكن كيف نضمن أن مليونية ٢١ أكتوبر ستؤتي أكلها بتغييرات جذرية على أرض الواقع؟ يمكن ان يتم ذلك من جهتين، اولا في إطار الوثيقة الدستورية لا بد أن تضغط قحت لتغيير المكون العسكري، إذ لا يمكن اختزال كل الجيش في خمسة مجرمين، كما على قحت أن تشرع في تكوين مجلس تشريعي ثوري لا يكون لكتلها والجبهة الثورية سوى تمثيل محدود فيه، وأن تكون معظم مقاعده للثوار ولجان المقاومة باشتراط معايير ثورية صارمة، وإلا فإنّ قحت ستواصل مسلسل أخطائها، وسيتأكد شعار (قحاتا بعتو الدم) إذا أصروا على آن يستحوذوا على المجلس، مثلما تقاسموا السلطة التنفيذية رتب رتب مع الجبهة الثورية التي لم يكن لسلاحها الناري أي أثر في نجاح هذه الثورة السلمية. ومن ناحية أخرى فإن الثوار الذين خرجوا في ٢١ أكتوبر بدأ اهتمام معظمهم بالبناء القاعدي، وقد بدأ بعضهم بالفعل في تنظيم آنفسهم بالبناء القاعدي المؤسسي مما يعني أنهم بصدد إفراز قيادتهم الجديدة، وهذا هو الضامن الأساسي لترجمة الحراكات الثورية إلى قرارات أكثر تأثيرا، ولا ضامن سوى ذلك لبناء مستقبل السودان. فعلى لجان المقاومة والقوى الثورية في مدن السودان وأريافه الشروع فورا في البناء القاعدي الحقيقي والتشبيك الديمقراطي، وليستفيدوا من التجارب التي بدأت وتم تنفيذها على أرض الواقع، ولينشروا تجاربهم على الملأ حتى يُستفاد منها، وتتلاقح الأفكار في طريق تحقيق أهداف الثورة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة