مثلما عاش هادئا رحل عن العالم بهدوء — فجأة توقّف القلب الذي ظل دوما ينبِض بهموم الوطن ليباغتنا محمد بشير برحيله.
لم تكن شخصية محمد بشير (الذي غلب عليه عند القرّاء اسمه المستعار: عبد العزيز حسين الصاوي) الذي قابلته في بداية ثمانينيات القرن الماضي (والذي كان لا يزال يعمل في السلك الدبلوماسي) تختلف كثيرا عن شخصية محمد بشير الذي قابلته فيما بعد في التسعينيات في لندن وتوطّدت علاقتي به. إن أول ما تلاحظه فيه هو سَمْته الهادىء وطبيعته المفكِّرة، وهي طبيعة تغتذي باستمرار من اغترافه المعرفي.
كانت تجربة محمد بشير شبيهة بتجربة غالبية أقرانه من الذين انتموا لليسار، وهم جيل تشكّلت تجربته في ظل تجربة آباء الاستقلال، وانصهر وعيه في سياق صعود اليسار منذ أوائل الخمسينيات بعد نجاح انقلاب عبد الناصر في مصر. تميّزت تجربة هذا الجيل وحساسيته بعدائها للاستعمار والغرب، وهو عداء عمّقته نكبة استلاب أرض فلسطين وقيام دولة إسرائيل بدعم الغرب ومساندته المفتوحة. وبعد النكبة جاءت نكسة يونيو 1967 لتصبح صدمة عميقة وجرحا عميقا. ثم جاءت التسعينيات بتحوّل لم يهزّ العالم العربي فحسب وإنما كل العالم، وهو تحوّل أطلقه انهيار الاتحاد السوفيتي والمعسكر الشرقي وفتح الباب لاحقا لانهيار نظام حزب البعث في العراق وأدخل مجموع قوى اليسار في العالم وفي العالم العربي في أزمة فكرية عميقة. كانت هذه هي اللحظة الفاصلة التي أدرك فيها اليسار أن الديموقرطية شرط لا ينفصل عن مشروع الثورة. بانهيار الاتحاد السوفيتي انهارت صيغة الماركسية – اللينينية لتغيير العالم عبر ديكتاتورية البروليتاريا التي يقودها حزب طليعي، وهي صيغة كانت الحركة القومية العربية عبر تجليها الناصري والبعثي قد تبنّتها وأضحت أساسا لتجربة مصر وسوريا والعراق (علاوة على بلاد أخرى مثل السودان على عهد نميري واتحاده الاشتراكي).
(2)
وكان محمد بشير من أبرز مثقفي اليسار السوداني والعربي الذين هزّتهم تحوّلات فترة التسعينيات لتؤدي لتحوّل فكري عميق في رؤيته. كان على استعداد لقبول التحوّل وتَحَمُّل تبعة المراجعة الذاتية ونَقْد الأطروحات القديمة والتخلّي عنها والانفتاح على تحديات الواقع الجديد. احتضن الديموقراطية كبعد أساسي لا غنى عنه لإحداث التغيير على مستوى السودان والمجتمعات العربية، وأصبحت الديموقراطية السياق الذي لا تنفصل عناصر خطابه القومي العربي عنه وتربط نفسها به ربطا عضويا.
كان التحدّي الفكري الذي واجه محمد بشير كمفكر قومي عربي من السودان هو توطين فكرة أن السودان كقطر ينتمي للجسم القومي العربي. من الواضح أن السودان بلد في غاية التنوع على المستوى العرقي واللغوي والديني مما يجعل من الممكن وصفه موضوعيا بأنه بلد ذو هُوِيّة تعددية وأن ما يجمع عناصره بالدرجة الأولى هو الإطار الجغرافي. لا يقف محمد بشير عند هذه النقطة وإنما ينظر وراءها ليأخذنا في رحلة استقصاء للهُوِيّة السودانية بدايتها مملكة الفنج.
(3)
قامت دولة الفنج على السيطرة المركزية ونجحت رغم تمزقاتها الداخلية في خلق تحالفات سياسية أدّت لقيام كيان كونفيدرالي امتد من البحر الأحمر للنيل الأبيض ومن دنقلا لفازوغلي. ويحرص محمد بشير في كلامه عن دولة الفنج على تأكيد الطبيعة السائلة لحدود كيانها وتداخلها مع دارفور والجنوب. وفيما يتّصل بأصل الفنج فإنه يميل للنظر إليه من خلال نشوء عوامل اقتصادية وسياسية واجتماعية في السياق التاريخي الكبير للهجرة العربية الكثيفة إلى وادي النيل. وهو يميل للاتفاق مع من يرون أن الفنج ربما يكونون أصلا مجموعة غير منتمية قبليا اعتنقت الإسلام وكانت متحدّثة بالعربية واستطاعت أن تؤسس في بداية القرن السادس عشر مدينة سنار كنواة لدولتهم. وينظر محمد بشير للفنج وصعودهم ضمن عملية كبيرة يسميها "صيرورة استعرابية"، وهذه الصيرورة تمثّل عنصرا أساسيا في تنظيره للمسألة القومية العربية في السودان. وأهمية الفنج في رأيه أنهم وبقيام دولتهم وضعوا أساسا لهذه "الصيرورة الاستعرابية" ونشروها ليتم استيعاب مجموعات أخرى فيها. وهذا الدور المبكّر والحاسم للفنج هو ما يريد أن يؤكّد عليه ويلفت النظر له لتصحيح النظرة السائدة التي ترى أن الكيان السوداني قد وُلد وتمّ صنعه على يد الحكم التركي. فما حقّقه الحكم التركي من توسّع غربا وجنوبا ومن تطوير وتنمية لم ينشأ في فراغ وإنما استند على ما ورِثه من الفنج. وهكذا فدولة الفنج، بتوفيرها لمناخ ما يسميه بـ "الصيرورة الاستعرابية"، هي البداية الفعلية للكيان السوداني.
(4)
والمرحلة الأخرى المهمة في استقصاء محمد بشير للهُوِيّة السودانية هي المهدية. ولقد شكّل تناول المهدية همّا فكريا كبيرا لديه انعكس في واحد من أول وأهمّ مساهماته وهو كتاب الثورة المهدية في السودان: مشروع رؤية جديدة الذي ألّفه بمشاركة محمد علي جادين (1987). ورغم الطبيعة الوطنية السودانية التي ألهبت الثورة المهدية والطبيعة الدينية الصرفة التي استند عليها ادّعاء محمد أحمد المهدي لمهدويته إلا أن محمد بشير اجتهد اجتهادا شديدا لاعتصار بعد قومي عربي لحركة المهدي. وهذا البعد موجود بالقوة في الدعوة بحكم العلاقة العضوية بين الإسلام والعروبة من ناحية وبحكم أن من شروط المهدي المنتظر انتماءه للبيت النبوي.
وعلى ضوء الفهم الحديث لمعنى الكيان القومي الذي يركز على مفهوم الحضارة وما يشكّلها من عناصر لغة وثقافة وتاريخ وتكوين نفسي مشترك يشير محمد بشير لذلك الطابع التاريخي الخاص للقومية العربية الذي جعلها ملتحمة التحاما وثيقا بالإسلام. إلا أنه وعلى المستوى النظري يميّز بين الرابطة الدينية والقومية، وهو تمييز ما كان الممكن للمهدي في ظروف نشأته الفكرية وزمانه أن يدركه رغم تقدّمه على معاصريه، وما كان من الممكن للحركة المهدية أن تعكسه. ومحمد بشير يشير لهذا التمييز لأن قراءته للواقع السوداني والعربي ورؤيته للتطور التاريخي ترى حركته في اتجاه تجاوز الديني لصالح القومي ومن ثم ولادة واقع تصبح فيه اللغة العربية هي الوعاء الجامع الذي سيجسّد قيم ثقافة، بل حضارة، "قومية عربية". إن العروبة بهذا المعني تصبح عروبة الثقافة وليس عروبة العِرْق أو الدين.
ولقد كان من الطبيعي لمحمد بشير وهو يتناول العلاقة بـ "الآخر غير العربي وغير المسلم" أن يتحدّث عن الرِّق وميراثه في سياق واقع السودان. وكان من الطبيعي أن يدين لاإنسانية الممارسة وما تمثّله ذاكرتها التاريخية من عقبة كبرى في التفاعل مع الإدراك الجنوبي، إلا أن ذلك لم يمنعه من التمسّك في نفس الوقت بفرص ما وصفه بـ "الممكنات التوحيدية". ولقد راهن على هذه "الممكنات" وفي ذهنه تجارب "التثاقف" أو الاندماج والاستيعاب الثقافي مثلا في حالة الفرتيت عندما تحوّلوا لفور في ظل سلطنة الكيرا أو في حالة الدينكا عندما تحوّلوا لنوير نتيجة الهجرة والاسترقاق. وراهن أيضا على أفق اللغة وكتابة الجنوبيين للغاتهم بالحرف العربي. إلا أن رهان محمد بشير (وكل الذين كانوا يحلمون بالوحدة) أمسى خاسرا — عندما جاءت اللحظة الحاسمة كانت ذاكرةُ الماضي وقهرُ الحاضر أقوى من وعد المستقبل.
(5)
وانعكس تحوّل محمد بشير أكثر ما انعكس بطرحه لرؤية طمح عبرها لتجديد الدم في أوصال المشروع القومي على مستوى السودان والعالم العربي، وهي رؤية كان عماداها الديموقراطية والاستنارة (وهما عمادان حاول جمعهما في بعض كتاباته في كلمة واحدة لم يستقرّ عليها، فنحت كلمة "الديموستنارة" بتقديم كلمة ديموقراطية وأيضا كلمة "الاستناقراطية" بتقديم كلمة استنارة). وتأكيد هذه العلاقة يستند بالطبع على الانتباه للتجربة الأوربية باعتبارها التجربة الأم في التراث الديموقراطي وشروطه الفكرية. ومن أوضح ما كتب محمد بشير بهذا الصدد مقالة في يناير 2008 بعنوان "لا ديموقراطية بدون ديموقراطيين ... وعقلانيين". ومما لاحظه أنه ورغم الحديث المستمرّ عن الديموقراطية والتي أصبحت محل اتفاق وإجماع عام، إلا أنه كان ثمة عنصر مفقود في الجهود الفكرية والسياسية وهو عنصر العقلانية. ولقد رأى في هذا الغياب المعوّق الأساسي في طريق نشوء تنوير عربي يُخرج العرب المعاصرين من "غياهب العصور الوسطى". كان من الواضح الجلي له أنه وبينما أن الديموقراطية غير ممكنة في غياب ديموقراطيين فإن الديموقراطيين أنفسهم لا يمكن أن يوجدوا في غياب العقلانية (والعقلانية مرادفة عنده للاستنارة إذ يقول في ورقته "معا نحو عصر تنوير سوداني": "لا ديموقراطية بلا ديموقراطيين، ولا ديموقراطيين بلا استناريين"). وهذا التلازم عنده بين الديموقراطية والعقلانية أو الاستنارة نابع من فهم أصيل لا يقصر الديموقراطية على نظام الحكم وإنما يمدّدها لكل المناحي لتصبح طريقة تفكير وسلوك وأسلوب حياة.
(6)
ولم تقتصر كتابة محمد بشير على الهمّ النظري فحسب وإنما امتدت للجانب الاستراتيجي الذي حاول عبره أن يمدّ المعارضة ضد النظام العسكري الإسلامي بالوسائل لفرض حضورها وتمديده. وبهذا الصدد انصبّ تركيزه على جذب الانتباه لضرورة العمل في مجالين هما الإصلاح التعليمي والمجتمع المدني. رأى في التعليم أكثر الوسائل فعالية لنشر قيم الاستنارة، ورأى في عمل المجتمع المدني أكثر الوسائل فعالية لتحقيق الكثير من برامج التغيير الاجتماعي من ناحية ولتربية المنضوين في النشاط المدني ليصبحوا أكثر ديموقراطية من ناحية أخرى. كان همّه الكبير عبر التعليم ونشاط المجتمع المدني أن يزاوج بين النظرية في طموحها الكبير والنهائي والممارسة في حركتها اليومية البطيئة والتي من الممكن أن تكون متعثّرة ومعرّضة للمزالق وهي تحاول تجسيد النظري ودمجه بالواقع.
(7)
عاش محمد بشير حياة بسيطة أقرب ما تكون لحياة الزاهد الناسك الذي "يحسو كما يحسو الطائر". عاش وهو يكره الأضواء ويبتعد عنها مكرّسا حياته لمشروعه الفكري السياسي وهو يحلم ويكتب عن وطن تسوده ثقافة وممارسات الديمقراطية على كل الأصعدة ويتشرِّب بقيم العقلانية والاستنارة. وترك لنا تراثا سيجعل حوارنا معه ممتدا ومتواصلا لا ينقطع.
محمد محمود أستاذ جامعي سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ويقيم حاليا بالمملكة المتحدة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة