طرحت الحكومة مسودة لقانون جديد للصحافة عام 2004، التقينا مجموعات من الصحفيين وتدارسنا المسودة، وكان هناك اتفاق عام بأنها أسوأ بكثير من القانون الجديد، بما يتطلب العمل على مناهضتها وبيان ما بها من تعدٍ على حرية الصحافة. التقت أجيالٌ من الصحفيين وصاغت رداً مُفصّلاً على المسودة وتوضيحاً للمواد المخالفة للمواثيق الدولية ومبادئ حرية التعبير والإعلام. وتم تكليف لجنة من الأساتذة محجوب محمد صالح ومحجوب عروة ومحمد لطيف بتسليمها للبرلمان ولوزير الإعلام وكل الجهات ذات الصلة. لكن في الليلة السابقة لموعد تسليم المذكرة تلقى الأساتذة الثلاثة استدعاءً من الأجهزة الأمنية للحُضُور في الثامنة من صباح اليوم التالي. نفذ الأساتذة الأمر، لكن كانت هناك احتياطات ونسخ أخرى من المذكرة، فقامت لجنة أخرى بقيادة الأستاذة آمال عباس بحملها للبرلمان ولوزارة الإعلام. دخلنا مكتب وزير الإعلام بغرض تسليم المذكرة لمدير المكتب، إذ لم تكن لدينا مواعيد مع الوزير وقتها المرحوم الزهاوي إبراهيم مالك، لكنه عُلم بالأمر وطلب دخولنا إليه. روينا له القصة وسلّمناه المذكرة، لكنه سألنا بانزعاج: وأين الأستاذ محجوب محمد صالح الآن؟ أخبرناه أنه نفّذ أمر الاستدعاء ولم يعد حتى الآن، فصفق بيديه متعجباً، ثم قال: "والله مفروض الحكومة تفتش معارضين في عقل وحكمة ونزاهة الأستاذ محجوب وتدفع من أجل إيجادهم". كلّما يشتد النزاع بين الحكومة والمعارضة ترتفع تحذيرات هنا وهناك تُحذِّر من أن تؤول الأوضاع في بلادنا إلى مصير سوريا وليبيا واليمن، حيث انفرط عقد الدولة وتقسّمت تلك البلاد لممالك وشيع وطوائف وحكومات، وغطى الدم شوارع مدنها. هذا مصيرٌ مُخيفٌ، تستخدمه الحكومة وإعلامها دوماً لتخويف الشعب من التجاوب مع النداءات المُعارضة، ولعله هو السبب الذي جعل فئات مُعارضة كثيرة تتريّث وتقبل بمبادرات الحل السلمي. لكن هاهي العبقرية الشعبية تُبادر بطرح وسيلة هادئة وسلمية وديمقراطية، لا تسبب خراباً، ولا توجد اضطرابات، ولا تفتح الباب للعُنف، تُعبِّر عن رأيها وتوصل رسالتها كأهدأ وأبلغ ما يكون، أن يبقى الناس في بيوتهم، وكفى. لكن الغريب أنّ الحكومة التي ظلّت تُحذِّرنا من مصير تلك الدول يتلبسها فجأةً شيطان السلطة، فتبادر بشجب الوسائل السلمية وتدعو الناس للخروج إلى الشارع، وتتحداهم بدعوتهم للمنازلات العنيفة. أو ليس هذا هو الجُنون بعينه؟ لماذا نُكرِّر تجارب من أنتم، وفاتكم القطار، ومصر ليست تونس ....إلخ..؟ مَن الذي يدعو للعنف الآن.. ومن يحاول أن يخلق بلبلة واضطرابات في البلاد قد تقودنا لمصير سوريا واليمن وليبيا، هل هي الحكومة أم المُعارضة؟ أو ليس من المُفترض أن تحمد الحكومة ربها أن أهداها مُعارضة عاقلة وسلمية تخاف على مصير البلاد وعلى أمنها واستقرارها، وتُحاول توصيل صوتها بدون عُنف؟. وعلى قول المرحوم الزهاوي، ألا تحسد حكومات كثيرة في المنطقة حكومتنا على هذه المُعارضة الواعية والعاقلة، وربما تعاير مُعارضتها بالقول "شايفين السودان؟"، وربما تبذل جهداً وتدفع لإقناع مُعارضتها باللجوء لمثل هذا الخيار. حمى الله بلادنا من كُلِّ شر، ورفع صوت الحكمة والعقل على كُلِّ صوت سواه، وجعل حل مشاكلها وأزماتها في الوسائل السلمية والديمقراطية لتُقدِّم نُموذجاً لدول المنطقة والعالم
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة