رحم الله الإعلامي و المؤرخ و السياسي المخضرم محمد خير البدوي ، و الذي كنت قد ألتقيته العام الماضي بمقر إقامته بالفندق إبان مشاركته في أعياد الإستقلال 2015، الرجل كان آخر من بقى حيّا من زُمرة الذين جلسوا في طاولة المفاوضات حول الإستقلال مع الإنجليز ، حكى لي رحمه الله الكثير من تداعيات تلك المرحلة وحقائق أحداثها التي غفل عنها عمداً الكثير من الذين أرَّخوا لفترة الإستقلال و ما قبلها ، و بالرغم من أن مُجمل تصريحات الرجل و إستدراكاته التاريخية كانت مهمة و جديرة بالتوثيق ، إلا أن شد ما لفت إنتباهي أنه أقرَّ بوجود خلاف إستراتيجي حول تفاصيل سيناريو الإستقلال ، و يبدو أن هناك خلافاً كان قد وقع حينها داخل هيئة مؤتمر الخريجين بين شقٍ من الإستقلالين نادوا بالإستقلال الفوري ، و آخرين نادوا بإعلان الإستقلال فوراً على أن يكون خروج الإنجليز من الحكم المحلي و الخدمة المدنية تدريجياً وفق مخطط يقضي بإحداث السودنة الكاملة بعد 15 عاماً بالكمال و التمام من إعلان الإستقلال ، و المُبرِّر في ذلك كان مضمونه حصول الكادر الوطني السوداني على أعلى نسبة تدريب و تأهيل تمكنه من تولي أمور البلاد على المستوى الإداري و الفني و أضاف الأستاذ / محمد الخير البدوي أيضاً مجموعة من الأسباب الأخرى التي كانت تقتضي عدم إجازة الخروج الفوري لمنظومة الحكم المستعمر من أهمها إيجاد تسوية حول الجنوب وإقرار دستور وطني جامع و الحفاظ على التوجهات البنيوية لحركة التنمية الإقتصادية في البلاد ، تذكرت هذا الحديث و أن أُطالع مجريات حالنا اليوم بعد 61 عاماً من الإستقلال ، و الذي ينعته الكثيرون من الذين حضروا زمن الإنجليز أنه الأسوأ على كافة الإتجاهات ، و ليت بعد كل هذا التدهور التنموي والأخلاقي والثقافي والسياسي ما يبدو ليكون مؤشراً يفيد بأن ما نحن فيه من سوءٍ باقٍ كما هو بلا تدهورقادم ، ولكن هيهات فكل المؤشرات تشير إلى أن القادم أسوأ فلا نحن حسمنا قضية الدستور الجامع الذي يحكم كيفية ومرجعية تداول الحكم و السلطة في السودان وما يليه من فرعيات أهمها التقسيم العادل للثروة و حسم موضوع الهوية الثقافية للبلد ، ما زال هذا البلد مِرجداً يغلي و هو عند المختصين بالشأن الدولي و المراقبين المحايدين لواقعه السياسي قابل للإنفجار والتشرزم في أيي وقت ، طالما كانت حكومة المؤتمر الوطني تهتف جهراً ( الزارعنا اليجي يقلعنا ) و ضمناً لا تقدم أيي تنازلات حقيقية و فاعلة في مجال فتح منافذ حقيقية للحوار مع ( أهل الحوار الحقيقيين ) ، بإعتبارهم الأكثر تأثيراً على الواقع الميداني عسكرياً و سياسياً ، كيف لرأب الصدع أن يكون بلا هؤلاء ، وهؤلاء يطلبون من المؤتمر الوطني التنازلات المُره و التي لا يستطيع قادته و من حولهم من النفعيين الجُدد تحمُّل تبعاتها و التي على ما يبدو لن تكون يسيرة و لا بسيطة التأثير على وجودهم الشخصي و السياسي ، هل الإستقلال يا سادتي مجرد هتافات و شعارات و إجراءات شكلية تقضي بتنكيس علم و رفع علم آخر ، أما هو خروج من الإستعمار بخطوات نحو ( الإعمار ) .. الإعمار السياسي و الفكري و الثقافي و التنموي لن يستقيم إلا عبر تأكيد حصول هذه البلاد و هذه الأمة على حرية حقيقية و تمكين حقيقي من إختيار نظم الحكم عبر دستور جامع و عادل لا تحكمه غير المواطنه و المصلحة القومية .
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة