هنا في المقابر تتساوى النهايات الدنيوية.. الطريق إلى قبر الرجل الذي شغل الدنيا يأخذ مساراً متعرجاً يشبه مسار الشيخ الترابي في رحلته في شعاب الفكر ودهاليز السياسة.. قبر عادي لا يحمل حتى لافتة تشير إلى الاسم ولا تاريخ الوفاة.. ربما كانت تلك مفاجأة لم يتوقعها الدكتور محمد مختار الشنقيطي الذي كان يصر على زيارة الضريح منذ لحظة وصوله مطار الخرطوم.. هنا سكب الشنقيطي دمعاً ثخيناً كأنه يلومنا على تفريطنا في رجل في مقام الشيح الحسن الترابي الذي خطفه الموت والقلم بين يديه . اللافت في رحلة الدكتور محمد مختار الشنقيطي أن تتشابه مع رحلة شيخه حسن الترابي.. ولد الشاب الأربعيني في بيئة ريفية في شرق موريتانيا، كما ولد الترابي في بيئة مماثلة في الجزيرة بوسط السودان.. في عمر مبكّر حفظ الشنقيطي والترابي القرآن الكريم.. غادر الشنقيطي التعليم المدني وتتلمذ على يد فقهاء بارزين في الدين واللغة ولم يعد للتعليم النظامي إلا وهو على اعتاب الجامعة .. الترابي جمع بين التعليم المدني والديني مستفيداً من كون والده قاضياً شرعياً وعالماً في مجال اللغة.. لكن الشيخ الترابي كان يقفز على بعض المراحل الدراسية حتى انتهى به المطاف إلى كلية القانون بجامعة الخرطوم . بعد أن أنهى الشيخان الدراسة الجامعية مضيا إلى جامعات الغرب.. الترابي تنقل بين لندن وباريس فيما الشنقيطي مضى مباشرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية لينال درجة الدكتوراه من إحدى الحامعات المرموقة.. اللافت أن كلاً من الرجلين يتحدث بطلاقة نحو ثلاث لغات.. وربما المزاوجة بين أكثر من ثقافة وإجادة أكثر من لغة كانت الشفرة التي تفسر مكمن نجاح الرجلين. تشابه المسار بين الشنقيطي والترابي مكّن الأول من سبر غور الثاني..الشنقيطي أعاد بقلب المحب تقديم الشيخ الترابي ليس للأباعد والأعاجم إنما لعشيرته الأقربين من أهل السودان ..عبر امتلاكه ناصية اللغة وإلمامه بالفقه استطاع الشنقيطي أن يرد كل اجتهادات الترابي لأصولها في التراث الإسلامي.. فعل ذلك في إمامة المرأة وقتل المرتد وإلى حد كبير في جواز زواج المسلمة من كتابي.. فعل كل ذلك دون أن ينتقص من قدرات الشيخ الترابي في الابتكار والتجديد.. بل أوجد الرجل تبريراً لنزع الترابي لبعض الاجتهادات من جذورها السلفية بكون أن الشيخ أراد أن يرسي منهجاً جديداً لا يشترط فيه سقف السلف السابق لكل اجتهاد لاحق وتجديد مستحق . في تقديري أن مختار الشنقيطي يرمز لمرحلة جديدة يمكن أن تسمى بالترابية .. سينصف العالم الإسلامي الترابي ولو بعد حين.. كما كان هنالك بن تيمية وحسن البنّا وسيد قطب ستكون الترابية مدرسة في الفكر والسياسة.. هذا الرجل كتب نحو ثلاثة كتب وبعض من المقالات عن الحركة الإسلامية في السودان دون أن يلتقي أياً من رموزها.. استطاع الشنقيطي أن يلفت النظر إلى فكر الترابي المتقدم ويجد تبريراً لبعض أخطائه السياسية.. الإقرار بسبق الترابي وأثره الباقي كان يحتاج إلى شهادة رجل فذ في مقام الشاب الشنقيطي ..كما أفلح المصري رجاء النقاش في تسليط الضوء على مهارة الطيب صالح الأدبية سينجح مختار الشنقيطي في إعادة الاعتبار لشيخ مجيد ومجدّد اختلف حوله السودانيون، ولكن حتماً سينصفه التاريخ حينما يتسامى الرواة عن الصغائر . بصراحة.. مطلوب الآن من كل السودانيين إعادة قراءة الشيخ حسن الترابي بعيدًا عن حساسيات السياسة.. الترابي اجتهد في توطين أفكاره ورسم أفضل سيناريو للمشروع الحضاري.. لكن المخرج سامحه الله أعاد تفسير النص بشكل مغاير . assayha
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة