كان (الككُر) يأخذ القروش من شخوص بعينهم، ويعطي أناساً يختارهم، وعندما يشرب الماء، يريق باقي الإناء، فلا يعطي بقية ريقه إلا للخاصّة، الرجل بشخصيته الغرائبية، كان يدخل نهر الخيال الشعبي ويُلامس قاعه، الرجل لا يطيق السروال، ولديه رِهاب العِطر، إذا وجد جماعةً تُصلّي، لا يتردد في الوقوف معهم دون وضوء، ليس هنالك من يجرؤ على مساءلته، كثيراً ما يخبر عن حوادث قبل وقوعها، كأن يُبشِّرُكَ بقدوم مسافر، أو يرفع معك الفاتحة التي تعني أن أحد الأهل سيمضي إلى الضفة الأخرى من النهر. الككُر، كان أحد أسباب البركة في هذه البلاد، نفرتُ منه حين التقيته للمرة الأولى، ثيابه رثة متسخة، شعره أجعد منفوش، إلا أن تقاطيع وجهه معبرة، ولا تخلو من وسامة.. النساء وبعض العامة يعتقدون في صلاحه، ذوو العقل النقدي وبعض المتعلمين الذين يربكهم الواقع المغاير، يقولون إن للإنسان من القوى غير المكتشفة، ما يثير الكثير من الأسئلة الجديدة، كان الوقت عصراً والناس يزفون عريساً في قرية نائية من قرى الشمال، كان فرِحاً جداً، يصول ويجول، يعانق من يريد، وفجأة عانقني، تملصت دون جدوى، صاحت امرأة كانت بالجوار (هي دا مي حُمَّدْ طه).. أخيراً تخلى عن عِناقي وسألني: أُمّك؟ أبوك؟ ما أثار حيرتي لم تكن رائحته كريهة، عزيت ذلك للمناسبة، الطيب والبخور والعطور النسوية النفاذة، رحلت عن تلك الديار وغبت لسنوات عديدة، حين عدت وجدت الرجل بين ظهرانينا وفي القرى المجاورة، لم يتغير فى شكله العام إلا من أثر قليل للسنوات التي تصرَّمت، يسلم عليك، يسألك، أمّك؟ أبوك؟.. يطلب أحياناً نقوداً لا يضعها في جيبه.أبو قدح، ريس بنطون تنقسي/ الغابة، حكى عنه قائلاً: ربطنا البنطون، وخلاص ماشين، شُفنا لوري جاء وقف بالغرب، وقلتَ القطعة حارة، الناس ديل حيبيتو بهناك، أحسن أدوِّر البنطون أمشي أجيبهم.. دوَّرتَ وعديت لمُشرع الغرب، لقيت الككُر ومعاه امرأة وأطفال، سألتو وين اللّوري اللي كان واقِف هنا؟ ضحِكَ، فرجعت به إلى الشرق.. ذات يوم صادف أحد السكّاكة ــ المسافرين ــ كان واقفاً في البنطون، جاء الككُر كابِس على الراجل، عاوِز يسلم عليهو.. السّكاكي شاف هيأته الرّثة، فدفعه بعيداً عنه، وضربه، حُمّدْ طه زعِل شديد، في الصباح ــ يقول أبو قدح ــ جيت بدري، لقيت السفّاري الدنقلاوي منتظرني، وطوالي سألني: وين الزاهد اللّي كان أمس هنا؟ قال بإصرار، لا بد أن يجده، سألته عن الحاصل، فقال:ـ أمِس طول الليل، ما نُمتَ، لأن الحجارة انهالت علينا كالمطر.. قلت له، انتظر حُمّدْ طه، بيمشي السوق وبيجي راجع، وفعلاً جاء، ولما شاف الزّول واقف راجيهو، قال له: خلاص خلاص، وصرفه بيديه، وضحِكَ.. قلت للسفّاري: خلاص الككُر عفا عنك.في حِلّة تنقسي، وجدتُ نِتفاً عنه، كثيرون يحملون اسمه لأنه يحضر عقيقتهم من الصي الشرقي وقال إن اسم المولود كذا: حُمّد طه.. شيخنا عثمان محمد خير عبد الجليل من أهالي سلِب، كان قد جاوَر بالمدينة المنورة منذ زمان طويل حتى نسيه أهل البلد، إلى أن جاء الككُر، وبشّر بقدومه، جاء عثمان بعد أسبوع للبلد، ثم رجع بعد ذلك إلى المدينة ومات بها.. يحكى الحِلّة، أنّ الككُر كان يزور الحاجة (بابه) وزوجها بعد الهجعة، ويأخذ (الفُرصة) من السِّعن، يأكلها ثم ينام، وفي الصباح تجد الحاجّة (بابه) الفُرصة كما هي، وزيادة.. وُلِد حُمّدْ طه في حلة الككُر، وعُرِف بتجواله بين الدبة والجابرية والغابة وتنقسي والغدار، كان حاضراً بين الناس في كل المنطقة تقريباً، كانت له ضحكته المميزة، وكان يضرب على أُذنيه بيده فى حركة معروفة، يأتي إلى المناسبات من غير ما مكان، من خلف الشجر، جهة الصحراء أو النيل، قد تراه في الجابرية أو في سوق تنقسي، ثم تصادفه حافياً بين قِباب دنقلا، أو تراه يمشي أمامك في مُشرع البنطون، إن جئت غريباً، أوغِبت لسنوات، فإنه يتعرّف عليك، ويناديك باسمك، ويُكاشِفك بسيرتك الذاتية، وبأحوال أهل بيتك.. من هو، ومن أين أتى ذاك الرّجل الذي كنّا نراه عياناً، عندما تبرُق ذكراه في الخاطِر؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة