ويواصل العلامة الشيخ محمد الغزالي تعرية التقاليد الراكدة والوافدة من خلال المقارنة بينها وبين الإسلام، وأرجو أن تتابعوا الأسطر التالية من كتابه (قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة): لم يخل قطر على ظهر الأرض من يتامى، فإن الموت يطرق البيوت في كل طرفة عين من ليل أو نهار. ومن الناس من يتوفى دون أن يرى ولده، ومنهم من يخلفهم ذرية ضعفاء أفقر ما يكونون إلى الكافل الرحيم. وقد كنت أحسب المسلمين أكثر الناس يتامى لأن مغارمهم في حرب العقائد فادحة والطامعون في فتنتهم عن الدين لا ينتهون، قال تعالى: "وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا..." ثم بدأ لي أن حروب العدوان في الأرض لا تجف بركتها، وقد قتل في الحرب العالمية الأخيرة خمسون مليوناً، وسيل القتلى في الحروب المحلية لا يتوقف، والأيتام يكثرون ولا يقلون. ثم جاءت كوارث الزلازل والفيضانات فحصدت الأخضر واليابس، وخلفت أعداداً من الأرامل واليتامى! فلا عجب إذا حث الدين على رعاية المستضعفين، وإيواء الأيتام، وترقيق القلوب لهم، وإرصاد الأموال لمساعدتهم. وفي الحديث: "كافل اليتيم له أو لغيره ـ أي قريباً أو غريباً ـ أنا وهو كهاتين في الجنة، وأشار إلى إصبعيه السبابة والوسطى". وفي رواية أخرى "من ضم يتيماً بين مسلمين في طعامه وشرابه حتى يستغنى عنه وجبت له الجنة البتة". وعن أبي أمامة أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من مسح على رأس يتيم ـ لم يمسحه إلا الله ـ كان له في كل شعرة مرت عليها يده حسنات". وجاء أن رجلاً شكا إلى رسول الله قسوة قلبه! فقال له: "امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين"، إن مشاركة ذوي الآلام متاعبهم والاقتراب منهم يعيد التوازن إلى من أسكرتهم لذات الدنيا، وأذهلهم نعيمها. على أن المسلك الفردي إن أغنى حيناً فهو فاشل في أغلب الأحيان، لا سيما عندما يعم البلاء، وتترادف الآلام.. في البلاد التي نكبت بالجفاف تشردت الألوف المؤلفة، وأجهز الموت على جماهير من الضحايا، وفي الحرب بين العراق وإيران مثلاً زهقت أرواح لا حصر لها.. وفي القتال الدائر من بضعة عشر عاماً في لبنان وبين الحبشة وأرتريا، وبين أقطار شتى في وسط أفريقية.. الخ هنا وهناك يتامى كثيرون، يبلغون مئات الألوف، أو يتجاوزون المليون ماذا حدث لهم؟ وماذا يحدث؟. أعرف أن البعثات التنصيرية تلقفتهم على عجل، وفتحت لهم المدارس والملاجئ وقامت في صمت بأداء واجبها الذي تكونت من أجله!. بل إن ثريا ايطاليا تبنى أكثر من ألف طفل منحهم اسمه وماله!! . ماذا صنع المسلمون؟ هل تلاوتهم لآيات البر وأحاديث الرحمة تغني فتيلاً، أو تطعم من جوع أو تؤمن من خوف؟ إنه لا بد من جهاد جماعي مكثف متصل حتى يمكن إغاثة الملهوفين وتأمين حياتهم وحماية عقائدهم. إن الفكر البليد والقلب القاسي أخصر طريق إلى الضياع والعار والنار، "وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم، فليتقوا الله وليقولوا قولاً سديداً". الجار له عليك حق لولا أن الخبر نشرته الصحف، وأعقبته تحقيقات دقيقة ما صدقته! امرأة تموت وتبقى جثتها على سريرها بضع سنين ولا يشعر بغيابها أحد من سكان العمارة الكبيرة إلا مصادفة عندما شبت النار في البيت الواسع وريئ إخراج السكان بسلالم المطافي..! لقد وجدت رفات المتوفاة هيكلاً عظمياً بالياً هو نهاية المطاف بعد حياة حافلة بجلائل الأعمال أو صغائرها..! ما سأل عن المرأة أحد بضع سنين! ما شعر بغيابها جار قريب ولا بعيد! هذا ما صنعته بنا الحضارة الحديثة، لا يعرف أحد أحداً ولا يهتم بشؤونه، يخرج كل أمرئ من بيته إلى عمله ثم يعود أو لا يعود، وجاره غير مكترث ولا ملتفت. لا العروبة تعرف هذه التقاليد إن كنا عرباً، ولا الإسلام يقبلها إن كنا مسلمين! إن عاهة عفنة أصابت هذه الأمة فأزرت بها وجعلتها أدنى إلى الوحوش منها إلى البشر. في الجاهلية القديمة كان الجار مسؤولاً عن كرامة جاره وعن حمايته، بل كان ذلك مبعث فخره عندما يقول : وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز، وجار الأكثرين ذليل! وفي مواريثنا الإسلامية، إن الجار بقية الأهل من ولد ووالد ونسب وصهر، كما جاء في الحديث الشريف "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" أي سيجعل له نصيباً في تركة الميت!! فماذا حدث حتى وجدنا في أحد البيوت فرحاً وعند جاره ترحاً هذا يبكي وهذا يضحك! لا علاقة بين البيتين ولا صلة بين الفريقين..! في مجتمع المدينة المنورة قديماً كان هناك جفاء بين المسلمين واليهود، ولكن حق الجوار غلب الفرقة الدينية. روى مجاهد أن عبد الله بن عمرو ذبحت له شاة في أهله، فلما جاء قال: أهديتم لجارنا اليهودي أهديتم لجارنا اليهودي! سمعت رسول الله يقول: ـ "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" وعن أنس قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: ـ "والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحب لجاره، أو قال لأخيه ما يحب لنفسه". والواقع أن أقرب طريق إلى تماسك المجتمع كله هو أن يتشبث كل إنسان بجاره، فإن العقد لا ينفرط إذا ارتبطت كل حبة باختها، وهل الأمة إلا مجموعات من الجيران؟ فإذا لزم كل أمرئ جاره وغالى به لم يضع أحد في طول البلاد وعرضها، وفي توثيق هذه العرى جاء في الحديث: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم"! وفي رواية "ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع!" ترى ما يكون الوصف عندما يموت الجار، فلا يشعر بموته أحد عدة سنين حتى تكتشف جثته مصادفة؟، أي مصيبة تلك؟ إن المصائب الاجتماعية كثيرة في دنيا الناس، وينبغي أن تتكاثف الجهود لمحوها، ومن أصدق ما أحصى هذه المحن حديث يقول: "ثلاثة من الفواقر، إمام ـ حاكم ـ إن أحسنت لم يشكر، وإن أسأت لم يغفر، وجار سوء إن رأى خيراً دفنه وإن رأي شراً أذاعه، وإمرأة إن حضرت آذتك وإن غبت عنها خانتك"!! نسال الله السلامة من هذه البلايا
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة