أفق بعيد أثارت ردود الفعل الشعبية الأمريكية على انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة دهشة الكثيرين، فما حدث أمر غير مشهود من قبل، ولم يتوقّع أحد اعتراضات بهذا الشكل والحجم. فمنذ انتخابه خرجت المظاهرات في عدة ولايات تعترض على فوزه الذي كان مُفاجأة للجميع، ثم تكرّر الأمر بعد أدائه القسم، إذ خرجت مظاهرات شملت كل المدن الأمريكية تقريباً وبعض مدن أوروبا فيما عُرف بمسيرة المرأة، التي خرجت احتجاجاً على سياساته المُعادية للنساء. تنقسم ردود الفعل إلى نوعين، النوع الأول يُعبِّر عن دهشة صادقة مما حدث، والثاني وجد فرصة لتبخيس قيمة الديمقراطية بالقول إنّه وحتى في الولايات المتحدة التي تقدم نفسها كدولة ديمقراطية هاهي الجموع تخرج لتنقلب على الديمقراطية، وبالتالي يلبس كل مُحاولة للخروج على الديمقراطية أو رفضها مشروعية دولية. ومبعث ردود الفعل في الحالتين إما جهل أو تجاهل مُتعمِّد لأسس الديمقراطية. لم يقل أحد مطلقاً، ولا الآباء الأوائل المُؤسِّسون للديمقراطية أنّها تقف عند صندوق الانتخابات. ولو كانت الانتخابات فقط هي المعيار ففي كل دول العالم تُجرى انتخابات، حتى أعتى الدول الشمولية صارت تستخدم لعبة الانتخابات لتكسو نفسها مشروعية كاذبة. الانتخابات واحدة من ضمن آليات كثيرة للديمقراطية، لا يُمكن، وفقاً للديمقراطية، أن يأتي حاكم إلاّ عبر صندوق الانتخابات وفق إجراءات تتوفر فيها معايير الشفافية والصدقية والنزاهة. لكن لا يقول كتاب الديمقراطية إن الحاكم المنتخب يملك تفويضاً نهائياً ليفعل ما يشاء طيلة فترة حكمه، وما على الناس سوى القبول بأنه مُنتخب والصمت حتى تنتهي فترة حكمه، ثم ينتخبون حاكماً آخر يرضيهم. تتيح آليات الديمقراطية للناس، كل الناس الاعتراض على الحاكم أثناء فترة حكمه إذ رأوا منه اعوجاجاً أو تهديداً لمصالحهم. لهذا تحمي الديمقراطيات حق الناس في الاعتراض، وتوفر لهم سبل الحماية لمُمارسة احتجاجهم بصورة مُنظمّة وسلمية، وحين تتخذ إجراءات لتنظيم التظاهرات والمسيرات فهي تفعل ذلك من باب التنظيم ومُراعاة حُقوق الآخرين، وليس التقييد. من ذلك تحديد الشوارع التي تسير فيها التظاهرات، وضمان انسياب حركة المرور، وحماية المُمتلكات العامة والخاصة. وقد سبق ورأينا اعتقال الممثل جورج كلوني وعضو الكونغرس جيم موران أمام السفارة السودانية في واشنطن، وظن الناس أنه جزءٌ من المشهد المعتاد في دول العالم الثالث. والحقيقة أنّ الشرطة ظلت تحرس المسيرة وتحمي المتظاهرين، لكنها تطلب منهم عدم الاقتراب من حرم السفارة الذي تحدده لهم قبل المظاهرة. وما قام به كلوني هو شكل احتجاجي معروف لجذب اهتمام الإعلام، إذ يقتربون من حرم السفارة ويقومون باختراقه، ثم ينتظرون الشرطة للقبض عليهم، حتى تشكل صورتهم وهم مقبوض عليهم حدثاً تصوره الكاميرات وتنقله عبر العالم. وينتهي الأمر بتعهُّد أو غرامة بسيطة. ما أردنا قوله إنّ التظاهرات الاحتجاجية السلمية هي نفسها من آليات الديمقراطية التي يحميها الدستور، وليست خروجاً على الديمقراطية، وهي رسالة من الشعب، أو على الأقل جُزءٌ منه، للرئيس وللإدارة الحاكمة، تحدد عدم رضائهم عن بعض السياسات، ومن واجبه السماح بها والاستماع إليها. أهم ميزات الديمقراطية أنّها نظام إنساني بشري قابل لتصحيح نفسه من خلال المُمارسات العملية بلا قداسة أو حماية إلهية، وهنا تكمن مناسبة هذا النظام لشؤون الحكم. altayar
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة