مالذي يمكن قوله؟ هو ما لا يمكن قوله .. هذا هو مسرح بيكيت .. إنه يقول ما لا يمكن قوله. إنه يتحرك في فراغاتنا الروحية .. ليس بالضرورة أن أفهم ما يقول لأنه لا يقول شيئا بقدر ما يقول عن اللا شيء .. ربما كان تسجيله للفراغ أقرب إلى محاولة وصف حالة توحد لطفل في الخامسة من عمره .. إننا كغير متوحدين إنما نصفه من الخارج ؛ من خلال محاكمات من داخلنا .. وبقوانيننا الخاصة .. إن مسرح بيكيت أشبه بنفي الأنوية أو حيث لا يمكن أن نعتبر أنفسنا قادرين على تصور حيوات عقلية للآخر. إنني أفكر في تجربة بسيطة لشرح الرسومات الفراغية. وهي أن يقوم -العينة- بالعودة إلى الوراء عشرين سنة ولنفترض أن العينة رجلا أو امرأة بالغ من العمر أربعين عاما. إنني لا أطالبه بالتفاصيل بل بالمناخ الذي يحيط بتلك اللحظة المتذكرة . إن وصف ذاك المناخ أمر معقد .. وكأننا لا نصف ذواتنا بل ذواتا أخرى . إننا خارج الصورة أو المراقب أو العين -وما كان ذاتنا في الماضي- منفصل عنا لحظة التذكر. وفراغ بيكيت هو أقرب للفراغ الذي يملأ ما بين الفرد الخمسيني وصورته في طفولته والتي يشاهدها الآن. إن بيكيت يؤكد إنحلالات متصلة بين الفرد وذواته وليس ذاته الواحدة . ولا أقصد بذلك أنه يطرحها كتشخيص فلسفي أو نفسي ولا حتى لغوي؛ إنه في الواقع يعمل على إدخال قارئه في تلك الحالة الفصامية بالكامل ، ويقوم بتجريده من كل الأبعاد المحيطة به ، ويمحو كل ظلال كان من الممكن أن ترسم له حدودا إزاء الغيريات. ومن ثم فإن الفرد يفقد تعينه بالكامل. ليكون في قمة وجوده المنعدم. يلعب الصمت دوره في ذلك .. وهو كفراغ .. ولكنه فراغ يخلق أو ينحت أو يلعب دورا مهما في الوصف الكلي . هل يمكننا أن نقول بأن بيكيت يتحرك في فلسفة لا شيئية .. أو فلسفة تعزل الفرد عن توهمات وجوده .. إنني لا أؤمن بهذا الطرح ولا بغيره الذي ألحق بيكيت بالتصوف المسيحي .. فالتصوف نفسه ينطلق من امتلاء لا من فراغ .. أما بيكيت فهو يجسد الفراغ في قمة كآبته .. بل ويمنحنا القدرة على تصور أنفسنا جزءا منه .. بل وأن حقيقتنا هي هو . وأننا في حالات إنحلال متواصلة لذواتنا .. هذا يعني أننا لا يمكن أن نسند بيكيت إلى مقولات ذات مقدمات ونتائج ومن ثم فهو لا يطرح رؤيته بشكل تعقلي إنما شعوري محض .. أخيرا كلما انتهيت من قراءة بيكيت كلما تحسست جسدي لأتأكد من أنني لست فراغا داخل فراغ. 3أبريل2014 الساعة3:49 صباحا 6أكتوبر - مصر
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة