لم يتبق لي إلّا العمل كبائع جائل أعرض المناديل وامسح زجاج الفارهات، أو اغسل السيارات بشارع النيل، أو العمل طلبة أو ادخل سوق الله أكبر كفريش نحتمل هجير الشمس، ونكورك، ونصغى إلى كواريك السوق عبر مكبرات الصوت وعفصات المارة أو... لتحقيق دخل يكفي حاجتي ويستر حالي، إن كان بهذه الأعمال عائد يسد الرمق.
انسد التفكير وانسدل الستار علية ليقرر ماذا نفعل لجلب المال وسداد الديون التي تجاوزت المائة ألف جنيه؟ بل أن العجز وصل بنا أن لا نجد أو نوفر "حق المواصلات" اليومية للعمل وغيره، وتناسينا المجاملات الاجتماعية، والمشاركات الإنسانية، ومحينا بند الترفيه، والتطوير والزيارات الأسرية.
ربما تلك الحالة النفسية القاسية تنتاب كثيرين بل يعيشها غالبية الموظفين والمهنيين النزيهين الذين لم يغادروا البلد مغتربين، أو لاجئين سياسيين ولقهر الحرب، بمن فيهم أصحاب المقدرات المؤهلات العليا، وهو حالٌ عبر عنه مشروع الاتحاد العام للصحفيين السودانيين الذي سماه "الصحفي المنتج" والذي يملك فيه الصحفي تكتك أو ركشة، أو تاكسي، كأن الصحفي في عمله المهني لم يكن منتجاً وما مشروعات التمويل الاصغر للعمال ببعيدة.
كما عبر عنها الشعار الذي رفعه كمساري بأحد خطوط مواصلات الخرطوم، وكتبه على باب الحافلة "شغال وكايس شغل" وكذا نصيحة غاسل العربات عندما سأله الطبيب الدكتور وكان يمسح في عربته، كم هي يوميتك قال له مائتي جنيه، فرد عليه الدكتور أن يوميتك أكبر من يوميتي، فقال له "ضيعت عمرك ساكت" حقاً ضياع عمر.
واقع الحال أن الأموال باتت في أيدي فئات لا يمكن أن تنسبها إلى المتعلمين والمثقفين، ولا إلى الأهالي أصحاب الاراضي والحواشات، وشيوخ الصوفية، إنها فئة لا تنتمي إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، شديدي التشبث بأموالهم، ولا يعرفون منطقة وسطى فالألوان عندهم أحمر وأبيض فقط، بالتالي تذهب الأموال من حيث أتت. وأن المنتوج الطبيعي لهذا الحال هو اضعاف الهمم وموت المعنويات، والركون وعدم المشاركة في صناعة التاريخ، والاستمتاع بمباهج الدنيا وزينتها، إن لم يستصحب الشخص جانب ايماني واليقين بأن الفرج قريب وقريب جداً، وربنا يجازي الذي كان السبب. [email protected]
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة