أول أمس السبت صباحاً عمَّت العاصمة أجواء خريفية رائعة ومنعشة رافقتها أمطار (ناعمة) من النوع الذي لا يضُر الحاضرة ، ثم إنبرى الأمل والتفاؤل في وجوه الكادحين على حين غرة ، فكما نعلم جميعاً أن الشرور قد تكالبت على بسطاء هذه البلاد فتارةً تجيئهم أوجاعها من قساوة الجوّْ وحره الذي فاق التوقعات في عامنا هذا ، وتارةً تجيئهم أحزانها و آلامها من دائرة الركض اللا متناهي حول رحى البحث عن لقمة عيش شريفة في زمان أصبح فيه الغلاء الفاحش بلا مكافحة و لا رقيب ، خصوصاً ومترفي حكومتنا قد كرّسوا كل إمكانيات البلاد وخيرها الغزير لمصالحهم الخاصة ثم يبقون الفتات للمطبلين والنفعيين الجدد ، وتارةً تنبع مواجعهم من الإحساس الدائم بظلامية المستقبل وعدم الأمان من غدر الزمان ، فالأغلبية الساحقة لأبناء هذا الشعب من غير المصنفين كتابعين أو مهللين للمؤتمر الوطني والأحزاب الوهمية الرؤى و حاملي السلاح من الذين رضخوا لسلطان الأمر الواقع ، هم في الواقع من طبقة ما يصطلح عليه علماء الإجتماع (فقراء) ، فصار أغلب أبناء هذه البلاد من الشرفاء إن كانوا من المحظوظين لا يقدرون على أكثر من تأمين قوت يومهم ، وظهورهم مكشوفة لغدر الزمان ، أغلبهم بلا سند ولا مدخرات إحتياطية تنجدهم وقت حدوث الطواريء من أمراض ونكبات في المال والأهل والولد ، لكل ذلك أصبحوا يقتنصون الإبتسامة والتعايش مع جوّْ التفاؤل (المؤقت) الذي أكرمهم به رب العالمين يوم السب الماضي ، والحقيقة فإن الطقس ذو تأثير كبير في المزاج الشخصي والعام للمنظومة الإنسانية جمعاء ، والطقس المعتدل هو واحد من معطيات بيئة العمل ، فكلما كان الجو والطقس معتدل أو جميل ، كلما إرتفعت طاقة الإنسان وقدراته على العطاء والإبداع ، والعكس صحيح ، و على ما أظن هذا ما يُفسِّر مشكلتنا (الوطنية) الكبرى المتعلِّقة بعدم الإهتمام بالتفاصيل في مُجمل إنشاءاتنا وأعمالنا ومشاريعنا ، أنظروا إلى شوارعنا العامة والتي تدفع فيها الحكومات الميزانيات الضخمة لمقاولين لا يفرقون بين القويم والمعوَّج ، ولا يضمِّنون الجماليات ولرتوش التي تُحسِّن المظهر العام للمشروع أوالمُنتج ، وبعضهم يبرِّر ذلك بقداسة الإعتداد بالمضمون والجوهر ، فترى بعضنا يقول عن سيارة يوقفها رجل المرور تحت طائلة تشويه البيئة الحضرية (الطلاء ملحوق المهم أن الماكينة تدور والمركبة تسير) ، وعلى ما يبدو فإن إشكالية عدم إهتمامنا بالتفاصيل والجماليات الشكلية ضاربة في القدم بدليل وجود أمثال موروثة عبر أزمان من التاريخ تدعم ذلك المنحي تعضِّدهُ كالمثل الشهير القائل (من بره هلا هلا و من جوه يعلم الله) .. وكأننا نسوِّق لفكرة أن كل جميل ومشذب وبهي المنظر بالضرورة أن يكون مضمونه قبيح ، أسال الله تعالى أن يكرم بسطاء بلادي بأجواء وطقس معتدل يعينهم على كدهم وجهدهم لمواجهة بؤس الحياة وشقاءها ، وأن (يحنِّن) عليهم قلوب من إحتكروا القرار وتبوءوا سدة السلطان والنفوذ ليلتفوا ويلقوا نظرة إلى ما بات يعانيه الكادحين من فقرٍ وقلة حيلة وشعور بالخوف مما تخبئه الأقدار.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة