حدثني صباح أمس عمي علي أن حواراً جرى بين كريمته وأحفاده ..الأحفاد يخبرون أمهم أن معلمتهم طلبت إحضار علم السودان للاحتفال بذكرى استقلال السودان.. الأم تشرح لأولادها أن هذه مجرد محاولة لتجاوز فكرة العصيان المدني.. والأطفال يتركون الاستقلال ويركزون على حكاية العصيان.. يطول الشرح، والجد يستمع لأطفال صغار يبحرون في عالم السياسة.. كل ذلك بفضل تقنية الاتصالات التي طوّعت الخيال ويسّرت المحال . سألني البارحة مراسل هيئة (بي بي سي ) عن رؤيتي للعصيان المدني وكنت وقتها واحداً من نحو مائة فرد يستمعون لخطاب نائب الرئيس في بهو المجلس التشريعي بالخرطوم.. قلت ساخراً هل أستطيع أن أتحدث في هذا الزحام.. الحقيقة أن هذا اليوم لم يكن عادياً كما ترجو الحكومة.. خفت الشوارع من الحركة الراتبة.. في بعض المؤسسات المستقلة كان أثر الغياب واضحاً في أوساط المحامين وأساتذة الجامعات.. رجل أعمال معروف جداً أفادني أن عدداً من موظفيه طلبوا يوماً خصماً من إجازاتهم الراتبة. لكن في الناحية الأخرى لم يكن اليوم تاريخياً كما تصورت المعارضة الداعمة للعصيان .. لم يتوقف دولاب العمل في أي مرفق عام.. كانت وسائل النقل تجوب الطرقات .. أصحاب الأعمال الحرة انصرفوا لأعمالهم غير آبهين لدعوات العصيان التي تتطابق في حساباتهم مع قطع الأرزاق.. لكن النجاح كان في قدرة المعارضة على ابتدار فعل.. فيما كانت في السابق تتصيَّد أخطاء الحكومة لتبني عليها ردود أفعال.. امتلاك زمام المبادرة في حد ذاته إنجاز كبير. لكن ما الذي حدث وغيَّر في موازين التوقّعات.. الحكومة أخذت الدعوة للعصيان هذه المرة مأخذ الجد.. أدركت أن المعارضة تتفوق عليها إسفيرياً فجندت كوادرها.. مثلاً اللواء إبراهيم الخواض مدير مكتب الأستاذ علي عثمان اضطر أن يصبح (بندقجي) في دنيا التواصل الإعلامي.. جولات الرئيس البشير في الأمصار أعادت تعبئة جموع الحزب الحاكم.. كما أن استخدام آليات الدولة أفلح في رسم صورة مخيفة لأي اضطراب يحدث في هذا التوقيت. المعارضة الداعمة للعصيان ارتكبت أخطاءً إستراتيجية.. إطلالة الحركات المسلحة وبصوت مرتفع جعل الناس يتخوفون من تكرار سيناريو غزو أم درمان أو الإثنين الأسود الذي أعقب مقتل العقيد جون قرنق.. مطالب العصيان باتت سياسية أكثر منها مطلبية تلامس قلوب عامة الناس.. توقيت العصيان فقد زخمه الميقاتي وبدأ الناس يتعايشون مع الأوضاع الاقتصادية.. فقدان عامل الصدمة أفرغ شحنات الغضب وبات العصيان حدثاً سياسياً بحتاً.. الاعتماد على الـ (Social Media) كمصدر واحد في تعبئة الناس أبعد قطاعات واسعة من التأثير والتأثّر بالأحداث، وباتت في حكم المتفرِّجين.. كما تبنّت المعارضة خطاباً معادياً لكافة تشكيلات الإسلاميين مما حال من استمالة الغاضبين المنضوين تحت هذا التيار الواسع والذين يمتلك بعضهم معلومات مفيدة أو ثأرات تدفعه للخروج. بصراحة.. انتصر الشعب في هذه المواجهة.. لأول مرة تقتنع الحكومة والمعارضة أن هنالك جمعية عمومية يمكنها البت في مستقبل السودان.. لأول مرة تنزعج هذه الحكومة من إغلاق مواطن باب بيته واضطجاعه على الفراش.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة