سافرت هذه المرة فجأة لظرف طارئ هو مرض الوالد بالسودان دون ترتيب مسبق وحملت ما خف وزنه وغلا ثمنه في السودان بقدر ما تسمح به تذكرتي ذات الاثنان وعشرون كيلو جراماً ... حطت بنا الطائرة بمطار الخرطوم صباحاً ووجدنا المطار خالي تماماً إلا من عمال يتسكعون ويشكون الفاقة بسبب قلة الطائرات التي تعني قلة الريالات وقلة البخشيش ، انتهينا من إجراءات الخروج دون عناء يذكر ولمسنا ما يشبه الترحيب وكأن لسان حالهم يقول " هلموا إلينا فقد متنا جوعاً " ، سيور العفش فاااااضية والجوازات فاضية والجمارك فاضية كأن الطائرات قاطعت السودان ، لا ضجيج ولا صخب ولا زحمة ولا ناس مفترية ، خلال دقائق قليلة كنت بالخارج احمل حقائبي وحزني على هذا الوطن المتقهقر المجدب حتى من الطائرات التي تحمل مواطنيه إلى بلدهم في مواسم الأعياد.أما الزوار والسياح والاجانب فهولاء صاروا اصعب من العملة الصعبة ولم ار منهم أحدا ، هذا الوطن الجميل الخيّر لا يستحق أن يكون بهذا البؤس وطارد لأبنائه المشتتون في كل أنحاء الدنيا .بحثاً عن أي مكان في العالم يقبلهم بعد أن كان قبلة البعيد والقريب . في طريقي من المطار إلى ما يسمى موقف " شندي " كي آخذ أتوبيس إلى بلدي بشمال السودان مع سائق التاكسي العجوز الذي ذكرني بسيارته موديل السبعينات وسحنته البريئة بالزمن الجميل مما جعلني أوافق دون جدال على الأجرة التي طلبها ، ألهب مشاعري هذا الشايب البريء وقطع أحشائي بالقصص والمآسي التي ظل يرويها لي طول الطريق وأنا أتلفت يمنة ويسرى عساني أجد شيء افرح به ولكن لم أرى سوى المناظر المألوفة وخيبة الأمل تغطي الأماكن والوجوه ، وطن تراه كأنه بلا أوصال وبلا أوردة تقطعت به السبل وصار كالرجل النبيل ولكنه مشلول وفاقد للحيلة ، عبرنا كبري النيل الأزرق ، وكان النيل هادئاً على غير عهده يكسوه الوقار والحزن وفي صمته يحمل الكثير. وصلنا إلى موقف شندي وبادرنا السماسرة قبل أن ندخل إلى عمق الموقف حيث شركات النقل المشهورة " وأخذو حقائبي عنوة " وتعاطفاً معهم وافقت على الركوب في باص لا يحمل اسم أو علامة وهو مجرد " كداد " يقف بجانب الموقف ، وجلسنا به ساعات حتى اكتمل العدد وانطلق إلى بلدي "عطبرة " وجهتي المنشودة حيث الوالد والقلق ينتابني والباص يتلكع ويتسكع وأنا أتدثر بالصبر ، وأكثر ما زاد تعاطفي مع الباص وصاحبه وسائقه هو كمية الجازولين التي ابتلعها في جوفه حتى أحسست بأنه سيخسر في هذه الرحلة المهببة . بعد وصولنا إلى أول مدينة بعد الخرطوم تسمى " الجيلي " توقف التكييف تماماً وفتحنا " الدرايش " وبدأت الإخفاقات والعراقيل ، وما أن ينطلق قليلا ويضربنا الهواء حتى يقطع مسيره التفتيش ، نقاط التفتيش بين عطبرة والخرطوم أكثر من كاميرات ساهر بين الرياض والقصيم ، كل ما يدفع هذا المسكين لهولاء الجباة الجبابرة استحضر براميل الجازولين التي ابتلعها وأتأكد انه سيخسر في هذا الاستثمار الفاشل " وأكاد ادخل يدي في جيبي وأدس له شوية قروش زيادة " ، عندما وصلنا شندي بلغ منا التعب والجوع مبلغاً كبيراً ولكنه لم يتوقف بشندي الا لدفع الرسوم وقال الصلاة والغداء بمحطة كذا " نظام الولد مرتب ويملك خطة مرسومة للرحلة وسستم " ، وصلنا إلى هذه المحطة المحبطة والمقرفة وبطبيعة الحال لا يوجد بها مسجد ولا أكل مناسب نفس الأباريق والخلاء واللحم الغير مضمون والشاي الثقيل ، وخرجنا منها كما دخلناها وهمنا في الوصول إلى عطبرة يزداد والشقة تبعد وسرعة الباص تقل شيئاً فشيئا ونحن ندعو ونبتهل أن لا يتعطل تماما ويقطعنا في هذا الخلاء . وصلنا عطبرة حوالي الخامسة عصراً وكنت في غاية الإنهاك ولكن بحمد الله وصلنا بسلام وهرعت إلى حيث والدي ووجدته بخير وتعدى مرحلة الخطر وتنفست الصعداء وحمدت الله كثيراً على توفيقه لي في الوصول في الوقت المناسب . ولكن عطبرة قابلتني بوجه عابس هذه المرة وسموم تلفح الوجوه وصنابير مياه فارغة ولكن تجاوزت كل ذلك مقابل سلامة والدي وأهلي ومقابلة الأهل والأحباء ، أما سوق عطبرة فهو عبارة عن سوق " ام دفسوا " مليء بأكوام القمامة والغبار والمأكولات معروضة بصورة سيئة ولكن لا خيار أمام الناس سوى التعامل مع هذه الإخفاقات والتعايش معها ، أما الأطباء والعيادات والخدمات الطبية بشكل عام التي زرتها بسبب استكمال علاج الوالد ، فهذه تحتاج كتاب لوحدها لما يعتريها من سوء وفشل وتلاعب في حياة الناس . وجاءنا العيد السعيد واشترينا خرافنا ودكوتنا ( الدكوة هي زبدة الفول السوداني التي تعتبر من الأساسيات في عيد الأضحى ) وفحمنا وجهزنا ثيابنا وعمائمنا، وذهبنا لأقرب مسجد لأداء صلاة العيد ونحن مملئون بالزهو والخيلاء وإذا بمصري من جماعة الأخوان المعارضين للنظام المصري هو إمام صلاة العيد " هي حصلت " ظل هذا المصري يصرخ ويصرخ بلهجته الدارجية المصرية وأنا في غاية الحيرة لماذا يؤمنا مصري وكيف وهل عقرت حواء السودان من خطباء المساجد حتى يصلي بنا شاب مصري أخواني لا يملك إلا معلومات محدودة جداً ظل يكررها بصوت عالي ؟ . والبسطاء من المصلين يستمعون له بإنصات واهتمام وأنا طول الخطبة ابحث عن إجابة لماذا يصلي بنا هذا الرجل صلاة العيد . أما الوجه الجميل في هذه الرحلة حتى لا تتهموني بأنني رجل متشائم هم أناس يحملون قلوب من ذهب ووجوه برئيه شباب وأطفال كانوا خير من قابلت وحضرت وفي نفسي شوق لهم وحنين للعودة مرة أخرى بسببهم رغم ما ذكرت من بؤس الحال . أما رحلة العودة التي استغرقت ثلاث أيام حسوما عبر سواكن براً فهذه تستحق حلقة كاملة لوحدها لما حصل لنا فيها من" مرمرة " وتعب وإرهاق وجوع وأيضا إدارة العبارة كانت طاقم مصري سادي يجيد فن التعذيب الإنساني في أبشع صوره . مع بالغ أسفي لكم ،،،،،ِ عبد المنعم الحسن محمد 19/09/2016
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة