أفق بعيد عجيب أن تلتقي تواريخ رحيل مصطفى سيد أحمد ومحمود عبد العزيز، وبينهما غير ذلك مُتشابهات كثيرة، التميز والتفرد وكونهما صاحبا مشروع متكامل، ليس في الغناء وحده، لكن مشروع حياة مختلفة. جيلنا هو جيل مصطفى سيد أحمد، الأقرب إلى مشروعه وإلى نوع غنائه واختياراته، وربما لهذا السبب واختلاف الأذواق لم نكن من المُستمعين المُتابعين لأغنيات محمود عبد العزيز، لكن في نفس الوقت لا يُمكننا إهمال وتجاهل دوره ومشروعه وكونه كان أكثر من مُجرّد ظاهرة فنية. ولعلي كُنت من المحظوظين بمُتابعة كل المراحل الفنية لمصطفى سيد أحمد، منذ بداياته وهو طالب بمدرسة بورتسودان الثانوية، وكنا طلاباً صغاراً نتابع حفلاته ونشاطاته. وما زلت أذكر وقفته الهادئة على المسرح وهو يمسك بيده منديلاً لم يكن يفارقه، ويغني ثلاث من الأغنيات التي التصقت به، غدار دموعك ما بتفيد، بعدك الفريق أصبح خلا وبلابل الدوح، ثم أغنيات حمد الريح ومحمد ميرغني. ثم تابعته في الحصاحيصا التي كان اسمه لا يرد فيها إلا مقروناً بلقب الأستاذ، لأنه كان معلماً بها. ثم انطلق مصطفى من الخرطوم من معهد إعداد المعلمات ثم معهد الموسيقى والمسرح - كلية الموسيقى والدراما الحالية. في هذه المرحلة بدأ المشروع الفني لمصطفى يتبلور ويأخذ ملامحه. التقط أشعار أزهري محمد علي وصلاح حاج سعيد في بداياته، ثم يحيى فضل الله وقاسم أبو زيد وحميد والقدال. حدّد مصطفى خياراته بدقة، انتقى كلماته مثل جواهرجي ماهر وقدّمها بصوته العريض المُمتد ليسمعها لكل السودان. لم يصل مصطفى للناس من خلال الأجهزة الإعلامية المعروفة، لكنه اختار طريق جلسات الاستماع، حمل عوده وطاف به مسارح المدارس والجامعات والأندية، خلق لنفسه جمهوراً عريضاً من المُستمعين الشباب، وأطلق ثورة الكاسيت التي كان الناس يتبادلون خلالها شرائطه الغنائية المسجلة. لهذا لا تحتفظ الأجهزة الإعلامية بتسجيلات كثيرة لمصطفى، راديو أمدرمان والتلفزيون، إلا ما ندر. ويكفي للتدليل على ذلك أنّ لجنة النصوص رفضت إجازة أغنية "يا ضلنا"، وقطعاً كانت سترفض أغنيات أخرى لمصطفى لو قدمها. ثم اضطر المرض مصطفى للسفر إلى موسكو، ثم القاهرة، حتى استقر بالدوحة، وأنتج هناك وبدون مبالغة، مئات الأغنيات، كان لمدني النخلي نصيب كبير منها، ثم عبد العال السيد، بجانب حمّيد وأزهري وعاطف خيري والصادق الرضي وآخرين. كان مصطفى في سباق مع الزمن، يريد إخراج أكبر عدد من الأغنيات لتصل الجمهور، يسجلها بالعود، ثم يتبادل الناس التسجيلات، لهذا يمكن القول إن كثيراً منها هي مشاريع ألحان كبيرة لم تكتمل، تحتاج لتوزيع موسيقي وأوركسترا لتنفيذها. قال لي الصديق عبد الرحمن نجدي مرة إنه وقبل أسبوع من رحيل مصطفى حكى له أنّه حلم وهو يغني في مسرح كبير وخلفه أوركسترا عجيبة امتلأ بها المسرح، كان ذلك حلمه الحقيقي، تحقق شيهه حين اجتمع الآلاف خلف جثمانه. وما زلت أعتقد أن أمام أصدقاء مصطفى وأسرته ومحبيه واجب تنفيذ هذا الحلم، عبر تجميع ألحانه التي لم تكتمل وتوزيعها وتنفيذها موسيقياً بأصوات شابة قادرة على أداء ألحانه. altayar
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة