نواصل ايراد ردود الاستاذ محمود على الدكتور مصطفى محمود حول الجبر والاختيار من (الناحية الدينية ). يقول الاستاذ ( أول ما تجب الاشارة اليه هنا هو اضطراب الدكتور الواضح فى أمر التخيير ، والتسيير .. فهو يقول فى صفحة 49 : (فأنت تشاء ولكن قدرتك على أن تشاء وتختار هى منحة من الله ومشيئة عليا .. حريتك ذاتها منحة وعطية ومشيئة الهية .. ومن هنا كانت الاية .. وما تشاءون الا أن يشاء الله .. هى تقرير للحقيقة .. وليست كلاما متناقضا .. فهى تقرر أنك حر ولكن حريتك منحة وعطية وهبة ومشيئة من المعطى ) هذا ما قرره الدكتور .. فأن كان الامر كما قرر فهو ، يرى اذن ، التسيير، لا التخيير .. لان الذين يرون التسيير لا يرون أمرا غير هذا .. هم يرون أنه ما دامت (حريتك منحة وعطية وهبة ومشيئة من المعطى ) فأنت مسير من المعطى الى ما يريد هو ، وأن ظهر لك ، وهما ، انك تسير الى ما تريد انت .. ذلك أنه ، فيما يظهر لهم ، قد أودع التسيير فى المنحة ، ولكنه أودعه بصورة خفية تناهت فى الخفاء ، واللطف، حتى جاز عندك وهم انك حر ، ومخير .. والخطأ الجسيم الذ ما كان ينبقى لمفكلر فى مستوى الدكتور مصطفى أن يتورط فيه يجىء فى صدر بحثه ، فى رأى القران ، فى الموضوع وذلك فى صفحة 32 ، فهو يقول : ( ولان القرأن كتاب دين وليس كتاب فلسفة فأنه يكتفى بالومض والاشارة واللمحة فيقرر أولا أن حرية الانسان كانت بمشيئة الله ورغبته ومراده .. وأن ما يجرى من حرية الانسان لا يجرى اكراها للخالق ولا اكراها للمخلوق ) وأنما بهذا قضت المشيئة ) .. اقرأ مرة أخرى قوله .. ( وأن ما يجرى من حرية الانسان لا يجرى اكراها للخالق ولا اكراها للمخلوق ) .. ان هذا القول يقتضى ليكون صحيحا ، ان تكون حرية المخلوق مصاقبة ، ومساوية لحرية الخالق ، أو قل لمرضاة الخالق ، فهو لا يقع منه ما يستوجب مصادرة حريته ، حتى يجرى عليه الاكراه .. وهذا أمر لا يقول به عاقل .. وهو أمر لا يقول به الدكتور ، أيضا ، بهذه الصورة .. فلم يبقى الا أن الدكتور لم يتصوره بدقة كافية ، ويكفى ان يقال فى دحضه ان الانسان جاهل ، والله عالم ، والله هو الذى يعلم الانسان ما لم يعلم : ( علم بالقلم ، علم الانسان ما لم يعلم ) .. ولا يمكن الا أن يكون الجاهل مكرها ، فى بعض الاحيان ، على تعلم ما ينفعه : ( كتب عليكم القتال ، وهو كرها لكم ، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خيرا لكم ، وعسى أن تحبوا شيئا ، وهو كره لكم ، والله يعلم وانتم لا تعلمون .. ) ولكن هذا الذى قررناه غير فائت على الدكتور وهو حين تورط فى قوله : ( وان ما يجرى من حرية الانسان لا يجرى اكراه للخالق ولا اكراها للمخلوق ) لم يكن يقدر ما قدرنا ، وانما كان مشغولا بأمر أخر ، هو أن حرية الانسان مطلقة فى منطقة ضميره ، وسريرته .. أسمعه يقول !! ( ان السريرة هى محل الابتلاء ومحل المحاسبة والسريرة هى السر المتجاوز للظروف والمجتمع والبيئة والتربية كما أسهبنا فى شرحنا المسهب .. فهى المبادرة المطلقة .. والابتداء المطلق الذى أعتقه الله من كل القيود .. انها روحك ذاتها وهى الكاشفة على حقيقتك بمثل ما تكشف بصمة أصبعك عن فرديتك . وروحك فيها من روح الله لانها نفخه منه ( فأذا سويته ونفخت فيه من روحى فقعوا له ساجدين ) ولان فيك ذلك القبس من الله ولانه كرمك بحرية الارادة فأنت محاسب على هذه الحرية . وهذا منتهى العطاء الالهى .. ومنتهى العدل أيضا ) هذا ما قاله الدكتور فى صفحتى 39 و40 ان الدكتور مشغول بأمر الحرية المطلقة : ( المبادرة المطلة والابتداء المطلق الذى أعتقه الله من كل قيد ) .. الشىء الواضح ان الدكتور قد لبس عليه فى هذه الامور ، من الدقائق العرفانية .. واول ما تجب الاشارة اليه هنا هو أن الله لم يعتق من كل (القيود) غير نفسه - غير ذاته الساذج – وحتى الذات الساذج ، انما جاء عتقها ، من كل القيود ، من قبيل انها غنية عن الاغيار .. والا فأنه ، تبارك ، وتعالى ، قد قيد ذاته ، بمحض الفضل .. قيدها بالاسم ( الله ) .. و قيد الاسم (الله) بالصفة : ( الرحمة ) .. فقال : ( الله (الرحمن) (الرحيم ) ) .. وقال تعالى عن قيد ذاته العليه (بالرحمة : (قل لمن ما فى السموات والارض؟؟ قل لله !! كتب على نفسه الرحمة ، ليجمعنكم الى يوم القيامه ، لا ريب فيه .. الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ) .. وهذه الرحمة الواسعة التى قيد بها تعالى نفسه انما هى رحمة ( الرحمانية ) .. وهى ، لسعتها ، يدخل فيها حتى العذاب ، لان وراءه حكمة .. ورحمة (الرحمانية ) هذه مقيدها أيضا فجاءت عنها رحمة ( الرحيمية ) .. قال تعالى : ( واذا جاءك الذين يؤمنون بأياتنا فقل : سلام عليكم ، كتب ربكم على نفسه الرحمة ، انه من عمل منكم سوءا ، بجهالة ، ثم تاب من بعده ، واصلح ، فأنه غفور رحيم ) وعن رحمة (الرحمن ) الواسعة ، التى خصصت بالقيد ، فاصبحت رحمة (الرحيم ) ، قال تعالى : ( عذابى اصيب به من أشاء ، ورحمتى وسعت كل شىء .. ( هذه ( الرحمانية ) فسأكتبها للذين يتقون ، ويؤتون الزكاة ، والذين هم بأياتنا يؤمنون ) هذه ، من قوله تعالى : ( فسأكتبها للذين يتقون ) والى قوله تعالى : (بأياتنا يؤمنون ) انما هى رحمة (الرحمن ) المقيدة ، والمتنزله بهذا القيد ، الى منزلة رحمة ( الرحيم ) .. ومعلوم أن كل تنزلة من تنزلات الذات تتقيد بالتنزلة التى سبقتها .. فالعلم ، مثلا ، مقيد بالذات . والارادة مقيدة بالعلم ، والقدرة مقيدة بالارادة .. ومعلوم ، ايضا ، عند أهل التمكين ، ان الانسان انما هو تنزل الذات الى مقام التجسيد .. والانسان الكامل أول قابل لتجلى الذات الالهية المطلقة .. هو قيد الذات المطلقة .. وهو ، لما كان فى صيرورة مستمرة ، وتكوين مستمر ، يطلب الذات المطلقة ، أصبح صاحب نصيب فى الاطلاق بما يؤول اليه أمره ، ولكنها أيلولة فى السرمد .. فهو ، أذن ، سائر الى المطلق ، ولن يبلغه ، وذلك لسبب واحد بسيط هو أن المطلق لا يبلغ ، والا لما كان مطلقا .. وكلما ما هناك ان الانسان كلما ترقى نحو الاطلاق أدخل طرفا من الاطلاق فى القيد ، وظل الاطلاق فى اطلاقه .. والانسان الكامل فى الملكوت .. ونحن نحاول أن نحققه فى الارض ، وذلك مقدر لنا ، لان فينا (جرثومته) .. فنحن نسعى ، سعيا حثيثا ، للوصول اليه : ( يا ايها الانسان انك كادحا الى ربك كدحا ، فملاقيه ) .. والانسان الكامل لبس مطلقا ، وأنما هو منفتح على الاطلاق .. وهو ، انما لم يكن مطلقا ، لانه محتاج الى المطلق ، وذلك معنى انفتاحه على الاطلاق ز. فاذا كان الانسان الكامل ، فى كماله ، فى ملكوته ، لم يعتقه الله من كل الفيود ، فما ظنك بالانسان فى الارض ، وهو لم يشم شميم الحرية الا لان فيه (جرثومه ) الانسان الكامل ) ؟؟ ان الانسان مقيد – وهذا نفسه هو معنى قولنا ان الانسان مسير – الانسان مقيد بشتى القيود ، وهو يتحرر من القيود كلما علم ، وارتقى فى درجات القرب من الله .. وهو لن يكون حرا مطلق الحرية ، لان الله قيده الاخير ، وذلك قيد سرمدى .. وهذا المعنى هو المشار اليه فى قول الله ، تبارك ، وتعالى ، حين قال : ( لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، ومن يفعل ذلك فليس من الله فى سىء ، الا أن تتقوامنهم تقاة ،، ويحزركم الله نفسه .. والى الله المصير ) .. فبعد أن حذر من موجبات القيود فى المنازل القريبة ، جاء ليحذر من موجباتها فى المصير : ( ويحذركم الله نفسه ) .. ثم ليدل على السرمدية غير المتناهية التى يظل هذا التحذير قائما فيها قال : ( والى الله المصير) .. وذلك مصير لا تنقضى صيرورته .. وفى نفس هذا المعنى ، ورد ، فى مقام أخر ، قوله ، تبارك ، وتعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا .. وما عملت من سوء تود لو ان بينها وبينه أمدا بعيدا .. ويحذركم الله نفسه .. والله رءوف بالعباد ) ومعنى قوله ، تبارك ، وتعالى : ( والله رءوف بالعباد ) أنه ، تعالى ، فتح قلوبهم على الاطلاق ، ويسر لهم أن يحيطوا ، كل حين ، بشىء منه به يزيد كمالهم كمالا .. ( ولا يحيطون بشىء من علمه ، الا بما شاء ).. وهو يشاء لنا ، بمحض فضله ، أن نحيط بشىء من علمه كل لحظة .. وعن هذه المشيئة وردت الاشارة ، فى قوله تعالى : ( كل يوم هو فى شأن ) .. وانما شأنه ابداء ذاته المحجبة لعباده ليعرفوه .. وليس يومه أربعا وعشرين ساعة ، وانما هو (زمنية ) تتناهى فى الصغر حتى لتكاد تخرج عن الزمان .. وفى معنى ما يحذرنا الله ، تبارك ، وتعالى نفسه ، يحذرنا أنفسنا .. فأنه ليس هناك ، غيرها ، قاطعا لنا عنه .. ونفس كل منا نفسان : نفس دنيا ، ونفس علياء .. فأما النفس الدنيا فهى الحيوان .. وأما النفس العليا فهى الانسان الكامل ، الذى قلنا ان فينا ( جرثومته ) .. وما ترقينا الا رفع أنفسنا الدنيا نحو انفسنا العليا .. ونفسنا العليا من نفسه ، تبارك ، وتعالى ، فذلك معنى قوله : ( وخلق منها زوجها ) ، من سياق الاية السابقة نفسها .. ( يا أيها الناس !! اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ) .. فمن نفس الرجل العليا خلقت نفسه الدنيا فى تنزل .. وذلك ما أشارت اليه الاية الكريمة ( لقد خلنا الانسان فى أحسن تقويم * ثم رددناه أسفل سافلين ) .. ومن نفسه الدنيا خلقت زوجته – امراته – فى تنزل هو انبثاق عنه خارجه .. فالمراة زوجه فى الخارج .. ونفسه الدنيا زوجه فى داخل بنيته .. والسياق السالف من قوله تعالى : ( وخلق منها زوجها ) يتسع للمعنيين ، وانما يخصصه بالمراة قوله تعالى ، فى مواصلة السياق : ( وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ) وذلك حين يكون المعنيين الرجال الحسيين ، والنساء الحسيات .. وسياق الاية فى تمامه هو : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالا كثيرا ، ونساء ، واتقوا الله الذى تساءلون به والارحام .. ان الله كان عليكم رقيبا ، وتنزلات النفوس هذه هى التى جعلت كل نفس عليا تسيطر على النفس التى دونها .. والقاعدة العرفانية هى ( لكل لطيف سلطان على كل كثيف )، ذلك بأن كل لطيف انما هو أحدث عهدا بربه من كل كثيف .. وهناك قولة تقول ( للعارف على الجاهل ولاية طبيعية ) وهى مأخوذة من سيطرة اللطائف على الكثائف .. وهذه السيطرة هى السر فى قوامة الرجال على النساء ، حيث قال ، جل من قائل : ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض ، وبما انفقوا من أموالهم ) ونواص
أبعد كل هذا التهويم في الرد على قول الدكتور مصطفى محمود في المشئة والتخيير وتلحينه دون تيير المعنى، انتهينا إلى دونية المرأة للرجل (هي النفس الدنية للرجل) وهذه الدونية هي سبب قوامة الرجل عليها! وبهذا القول (اذا كانت النفس الواحدة هي نفسان دنيا وعليا وخلقت المرأة من النفس الدنيا) فإن المرأة ليست لها نفس عليا وبالتالي لا يمكنها بلوغ الانسان الكامل كالرجل، فكيف تدعون إلى المساواة بينهما ودعك من مسألة الجبر والاختيار!
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة