أسلم الصراع سلطنة سنار إلى الزوال.. فلقَ الصراع رتق ثنائية التنافس، التي أثمرت فيما بعد أحزاباً تتصارع على السلطة بوحي من الإرث القديم. تحققت نبوءة الشيخ إدريس ووقعت النهاية المأساوية للسلطنة بتفشي صراع الملكات فيه. كانت تلك النبوءة، إلى جانب بعدها الروحي، قراءة واعية لحيثيات ماثلة، ورصداً لتنامي الحوادث واستنتاجاً منطقياً لنهاياتها. في الفصل الأخير من الصراع داخل السلطنة نرى حال سنار من خلال الرسالة التي كتبها الوزير محمد ود عدلان لإسماعيل باشا، جاء في تلك الرسالة ما يلي: (لا يغرنك انتصارك على الجعليين والشايقية، فنحن الملوك وهم الرعية، أما علمت أن سنار محروسة محمية بصوارم قواطع هندية، وجياد جند أدهمية، ورجال صابرين على القتال بكرة وعشية؟). تلك رسالة تفضح نفسية قبلية للقائد الذي يرى في الجعليين والشايقية كيانات تابعة، وقد كانوا يدينون لسنار بوشيجة أخوة الطريق، وقدموا تضحيات في سبيل الدفاع عن الكيان، أو كأنه يدين استسلام السودان الشمالي للأتراك دون أن يعترف بالفضل للذين ماتوا في صد الغزو، ولربما كانت الرسالة تستهدف في الأصل مخاطبة جيوش السلطنة، لعل السجع يرفع فيهم حمية القتال. لعل أخطر ما في تلك الرسالة أنها تكشف عن نوعية السلاح الذي ما زالت تستخدمه سنار في صد أعدائها، وهو السلاح الأبيض الذي أحاله التطور إلى سلاح بدائي. كان القائد يحس بذلك، دون أن يدرك إدراكاً كاملاً أن ما يفاخر به كان مدعاة لاطمئنان الأعداء، ما يفسر اللجوء إلى الأولياء والصالحين لصد الخطر القادم بالدعاء. أما زعيم الفور السلطان محمد الفضل، فقد تحدى كذلك بالأداة الروحية على غرار ما كان يفعل الأسلاف، جاء في رسالته لإسماعيل باشا: ( أما علمت أن عندنا العُباد والزُهاد والأقطاب والأولياء والصالحون ممن ظهرت لهم الكرامات من وقتنا هذا وهم بيننا يدفعون شر ناركم فتصير رماداً يرجع إلى أهله). ذاك منطق التصوف العفوي، الذي أحاله التطور إلى تراث، بعد أن كان أفقاً أخضر.. التطور هو قدر ومشيئة، وتتجلى كرامة العقل البشري، وتتقدم الخطوة المادية ليكون السلاح الناري حاسماً بعد قدم الروح ممثلة في أولياء الماضي. هكذا الأمر.. سيناريو الماضي لا يصلح للحاضر ولا يُصِلح العطّار ما أفسدَه الدَّهر.. وهكذا انطوت حقبة سنار بعد أن خدمت الصوفية العفوية غرضها حتى استنفدته. كان الأتراك هم رجال المرحلة وممثلو الاستعمار الحديث، بهم قُسر أهل السودان على الارتباط بالمحيط الإقليمي كوحدة قطع لمسيرة التطور الداخلي. لقد حمل ذلك الارتباط في ثنايا شروره خيراً كثيراً، أعقبه عنفٌ آخر على يد المهدي طرد به الغزاة، وأوقف بمناخاته الثورية نشاط الطرق، كإعلان مبدئى بأن باب التطرق قد آذن بانغلاق.. لك أن تسأل: إن كان التطرُّق قد خدم غرضه حتى استنفده، ما هو البديل؟ akhirlahza
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة