بزغت كيلا والتي تمثل احدى كليات محلية الملم الى الوجود في وقت مبكر من عمر سلطنة دارفور وكانت واحدة من كبريات الحواضر في شرق جبل مرة ما جعلها قبلة يؤمها الكثيرون من شتى المناطق في ذلك الوقت ولعل مدلول اسمها بلهجة الفور يدل على ذلك فأسمها معناه "وصلنا أي جئنا أي قدمنا", كناية عن طيب المكان والاقامة فيه .
ولمّا كانت السلطة المركزية للسلطنة تتمحور في منطقة جبل مرة وما حولها , فقد نشأت كيلا ومناطق حضرية أخرى ضمن خطة وسياسة قُصد منها تأمين نواحي السلطنة ضد المطامع والغارات التي كانت تتعرض لها , فكان أن أستقر في كيلا الامير يحي بن أحمد بكر أحد أخوة مجموعة السلاطين الذين حكموا دارفور من أبناء السلطان أحمد بكر والجد المباشر للسلطان علي دينار لامه وبذلك فانّ عمركيلا يناهز ثلاثمائة وخمسين عاماً تقريباً.
إستقر الأمير يحي وعائلته واتباعه في كيلا كما أنها آوت الأمير زكريا محمد الفضل عبد الرحمن الرشيد والد السلطان على دينار واوت الامير نورين محمد الفضل والد الميرم/ مريم نورين محمد الفضل ( مريم مقبولة ) والدة الامام عبدالرحمن المهدي وقد بلغت كيلا شأوا عظيما ونالت إحتراما كبيرا خاصة فى عهد السلطان علي دينار لدرجة أن المسافرين الذين يعبرونها كانوا يتّرجلون عن الدواب والرواحل عندما يصلون التخوم فيمشون على الارجل ويكّفون عن الحديث الاّ للضرورة حتى يتم عبورها بمسافة الى موضع يُسمى ( هشابانج تاورا ) والتي تعني بلغة الفور ( فضاء الهشاب ) . وقد درج السلطان علي دينار على اقامة (حولية) سنوية لتلاوة القرآن والدعاء على روح جده يحيى المدفون في( كيلا القبة).وقد كانت قبة يحى هذه وقبة كلتومه ام السلطان ( موجودة في قرية ابي جلدي القريبة من الملم الى الشمال الشرقي منها ) ملاذان آمنان لمن خشي عقوبة السلطان ( كان السطان علي يعفي عن كل من يسعفه حظه للوصول والاحتماء بأحدى القبتين ) كانت قرية كيلا في تلكم الأيام تتألف من أكثر من ثمانمائة أسرة وكان يؤمها ويقصدها الكثيرون ، كانت القرية ترقد إلى الشمال والشمال الشرقي من جبل (فوقو أري) ولكونها مهد السلطان علي دينار وسُكنى عشيرته فقد خصها بزيارته السنوية الراتبة لإقامة الحوليه السنوية لجده لأمه يحيى بن أحمد بكر . ذكر لي والدي – يرحمه الله- أنّه كانت بحوزته وثيقة سربها إليه صديق من خزائن أحد زعماء الإدارة الاهلية قرّر في هذه الوثيقة السلطان علي دينار نواحي كيلا وحدودها ذاكراً مامعناه : هؤلاء هم قومي وعشيرتي ومن رشهم بالماء رششته بالدم ووقّع على تلكم الوثيقة بدمه . هذه الوثيقة انتهى بها المطاف إلى يد الأستاذ /أحمد ابراهيم دريج أخذها من والدي في كيلا في إحدى زياراته إبان فترة عمله كحاكم لدارفور وقد أوصى ا الوالد - يرحمه الله للبحث عنها لدى الأستاذ أحمد ابراهيم دريج .
بعد سقوط السلطنة فرض الإنجليز جملة من الإجراءات لبسط سلطتهم فكان أن أعلنوا وطلبوا من الناس جمع السلاح وتسليمه للسلطات فكان أن قام أهل كيلا بجمع ست قطعة سلاح . ولانّ الفرصة كانت مواتية للبعض ممن كانوا يتربصون ويبطنون السوء للسلطان علي دينار فقد أوشوا بأهل كيلا كونهم عشيرته وخاصته فذكروا أن أهل كيلا يملكون كمية كبيرة من السلاح وأنهم سلموا فقط ست قطع وبالفعل فقد أحيط بالقرية على حين غرة فعثرت السلطات على خمسين قطعة سلاح وجبخانة وترتب على ذلك القبض على العديد من أعيان كيلا وكان ممن نجوا من الإعتقال جدنا سليمان الملقب (بأبي فايقه) وكان مريضاً بعض الشيء وقتها فإزاء ماشهد من إعتقالات طالت إخوانه لم يستسلم فركب جواده وتوجه صوب الفاشر وكان قد سبق إليها قبل وقوع الحدث الشيخ/ سليمان (دلدمكرس) ( جده للفكي شيخ الدين - الشخصية المعروفة في منطقة ميرشنج ) رئيس الإدارة الأهلية في كيلا فحكى سليمان لسليمان ماجرى فذهبا للأعيان في الفاشر من قرابة السلطان علي فتولوا رفع الموضوع إلى السلطات في الفاشر فأُصدرت لهم خطابات إلى مركز نيالا وأُخلي سبيل أعيان أهالي كيلا الذين تمّ إعتقالهم بعد أن قضوا في الحبس ستة أيام بيد أنّ الأعيان لم يسكتوا على الموضوع فأعقبت محاولاتهم الإستئنافية حكما قضى بتفكيك الكيان الإداري لكيلا فكان نتاج ذلك أن أُتبعت ثمانٍ من مشيخات كيلا لإدارة (الأمونجا) كما أُتبعت (تربه) و(برنقو) و(سمونجا) و(قبه) و(الشاواية) و(جمبانج) و(ملمول) و(ستّيبة) و(حمريات) لإدارة البرقد ، وبذلك تم تفكيك الكيان الإداري لكيلا فأوغر ذلك غبناً في نفوس أهالي وقيادات كيلا فرحل عمدة كيلا سليمان (دلدمكرس) وعبدالرسول علي إلى الشاواية التي أُتبعت لإدارة البرقد . ثم إنتقل بعد ذلك سليمان (دلدمكرس) ليستقر في إحدى نواحي مرشنج حيث أجرى له الشرتاي آدم وملّكه أراضي تلك الناحية وجمع عشورها ، كذلك وحفظاً للحقوق الأدبية والمعنوية والمادية لهؤلاء القيادات فقد أقر الشرتاي آدم لعبدالرسول علي بالقول : إنّ البلد في الأصل بلدكم لكن حصل الذي حصل فأُتبعت لي لكن بالطبع أنتم الأولى والأحق بعشور خراجها وتبعاً لذلك فقد وجّه الشرتاي آدم العمدة محمد آدم عمدة (أم لساكت) الذي تقع الشاواية في نطاق عموديته حسب الإجراءات الإدارية التي تمت، وجهه بعدم أخذ ايّ عشور من أراضي الشاواية وترك عشور خراجها لعبدالرسول الذي إستقر في الشاواية لمدة ثماني سنوات وهكذا فقد هجر كيلا الكثيرون ممن طاب لهم المقام بها في عهدها الزاهر فهجرها الأمراء والكثيرون من الجلابة صوب (زالنجي) و(كاس) و(الفاشر) و(نيالا) ولم يبقَ من كيلا القديمة إلاّ الأثار.
في فترة لاحقه وبعد وفاة الملك تبن رئيس الإدارة الأهلية في نيالا (الملك تبن عُين رئيس للإدارة الأهلية في نيالا بعد وفاة الملك مصطفى جلقام وقد زوجه السلطان علي دينار ابنته الكبرى عائشة علي دينار بعد وفاة آدم رجال) بعد وفاة الملك تبن تم تنصيب عبدالرحمن آدم رجال مقدوما فكانت واحدة من همومه تشجيع أعيان كيلا للعودة إليها لإعمارها ، لذلك فقد قصد زيارة عمه عبدالرسول علي في الشاواية قادما من الفاشر في خمسةٍ من أتباعه كان من بينهم العمدة راما،الفكي إبراهيم بافرو ، وإبراهيم بلال ، وكانت معهم ثلاثة جمال تحمل أمتعتهم فمر المقدوم على الشيخ محمد مكي (محمد شمشمي) في ناحية الملم وأبلغه بأنّه يقصد الشاواية لزيارة الأهل هناك للتفاكر معهم وحضهم للرجوع لإعمار كيلا التي هجروها فبعث الشيخ محمد مكي أحد خفرائه (آدم دريديروه) في رفقة المقدوم الذي أصرّ أن ينزل في الوادي في (عراديب) السلطان وكان من بين الحضور يومها مولانا الفكي محمد أحمد الربيع في نفرٍ من حيرانه وقد تزامن وجودهم في الشاواية مع زيارة المقدوم . وبعد أن قُدّم للضيوف واجب الضيافة إنفرد المقدوم بعمه عبدالرسول وطلب منه العودة مع جماعته لإعمار كيلا وأنّ هذا هو الهدف الذي جاءهم من أجله، فتمنّع عبدالرسول بادئ الأمر مما إستدعى الإستعانة بالفكي محمد أحمد الربيع والعمدة راما (بلدنج كويه) عمدة (تيرينجو) للمحاولة لإقناع عبدالرسول والذي جبر الخاطر وقَبِل بفكرة العودة إلى كيلا فشكره المقدوم عبدالرحمن وأعطى المقدوم الفكي الربيع أربع ريالات كي يناولها لعمه عبدالرسول للإستعانة بها في بناء منزله (ورواكيبه) في كيلا وذكر له أنّه في طريقه لزيارة أخيه سليمان (دلدمكرس) في مرشنج لحضّه للرجوع إلى كيلا وبالفعل قام المقدوم عبدالرحمن بزيارة مرشنج وتفاكر مع عمه سليمان (دلدمكرس) للرجوع إلى كيلا إلاّ أن الأخير رفض رفضاً باتاً قائلاً : أنّه لن يعود إلى بلد أُسند فيه الأمر لغير أهله.
عاد عبدالرسول ومن معه وأعمروا كيلا في موقعها الحالي جنوب الوادي وكان ذلك في العام 1932م تقريباً وبقيت كيلا حلقة وصل في المنطقة حتى العام 2003م . فما من أحد في المنطقة كبيراً أو صغيراً إلاّ وله فيها صلات وحميمية قلما تجدها في كثير من الامكنة . لكن وكأنها على موعد آخر مع التاريخ فقد تكررت مأساة كيلا في خريف 2003م حين طُوِقتْ وقُتِل فيها نفر كريم من الشباب والشيوخ والنساء والأطفال فنزح سكانها إلى المعسكرات وإلى أطراف المدن لكن شعلة البقاء لازالت تتقد في قلوب أبناء كيلا وهم إن شاء الله على قلب رجل واحد لإعادة إعمارها لتعيد الدور المنوط بها بين رصيفاتها من قرى ومناطق دارفور . الطيب محمد عبدالرسول
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة