من "إعلان نوايا" تبنَّاهُ "ميثَاقُالسَّلامِ" بواشنطن في العام 1838م
*** المِفتاحُ الأوَّلُ، بل الدَّرْسُ الأَوَّلُ، من التَّاريخِ الإنْسَانِيِّ المُتَّصِلِ بمسألةِ اللاعُنْفِ هُوَ أنَّهُ ليست هنالِكَ، في أيَّةِ لُغَةٍ إنسانيَّةٍ، كلمةٌ مُفرَدَةٌ دالَّةً، باستِقلالٍ، على معنى اللاعُنفْ. بَلَىْ، إنَّ مفهُومَ ونَهَجِ اللاعُنف قد امتدحَتْهُ كُلُّ الدِّيانَاتِ الإنسانيَّةِ الرَّئِيْسَةْ. ثُمَّ إنَّ التَّاريْخَ الإِنسانِيَّ قد شَهِدَ، في جِمَاعِهِ، مُمَارِسِيْنَ للاعُنف، مَذْهبَاً وسلُوكَاً عمليَّاً وعقيدةً ومبدأ. مع ذَلِكَ، فِيمَا تَشْتَمِلُ أيُّ لُغَةٍ إنسانيَّةٍ رئيسَةٍ على كلمةٍ تعني "العُنفَ" ليست هُنالِكَ أيُّ كَلِمَةٍ، في أيِّ لُغَةٍ من اللُّغاتِ البَشَرِيَّةِ الرَّئيسَةِ، مُوْكَلةً بالتَّعبيرِ عن فِكْرَةِ اللاعُنف سوى تلكَ العِبَارةِ التي مُؤَدَّاهَا أنَّ فِكرةَ اللاعُنف ليست هي، بالأَحْرَىْ، "فِكرَةً أُخْرَىْ" مُقابِلَةً لـ"فكرةِ العُنف" وإنَّمَا هي فقط ما ليسَ هُو عُنفْ. ولئِنْ نُمثِّلُ لتِلْكَ اللُّغاتِ باللُّغَةِ السَّانسكريتيَّة نَلْقَىْ أنَّ الكَلِمَةَ التي تعنِي العُنْفَ فيها هي كلمة "هِمْسَا himsa"، الأَذَىْ أو العُنفْ، ومقابل كلمة "هِمْسَا"، تلكَ، في اللُّغَةِ السَّانسكرينيَّة، ليس هو- تَمَامَاً كما في حالِ كلمة اللاعُنف التي هي، لغويَّاً، مُجرَّدَ صيغة سلبيَّة لكلمةِ العُنفْ- سوى كلمة "أهْمِسَا ahmisa"- عدم فعل الأذى أو العُنْفْ. لكِن إن تَكُن الـ"أهْمِسَا" هي "عدم فعل الأذى أو العنف" ما الَّذِي تفعَلُهُ الـ"أَهْمِسَا" إِذَاً؟
التَّفسير المُمْكِن الوحيد لغيابِ أيِّ كلمةٍ تفاعُلِيَّةٍ proactive قد تُعبِّرُ عن معنى وقيمةِ اللاعُنف هو أنَّهُ ليست فقط المُؤسَّسَة السِّياسيَّة وإنَّمَا كذلكَ المؤسَّسات الاجتِماعيَّة والثَّقافيَّة لكُلِّ المُجْتَمَعَات البَشَرِيَّة قد نظرت إلى موقف (وفعل) اللاعُنف على أنَّهُ وِجهة نظر هامشيَّة، رفضٌ خياليٌّ لأحدِ مُكوِّناتِ المُجْتَمعِ الرئيسة، استِنْكَارٌ لسُلْطَةٍ لا يُسْتَهَانُ بها، لكنَّه ليس قُوَّةَ رفضٍ جِدِّيَّةٍ بديلةٍ قائِمَةً في حدِّ ذاتِهَا. إنَّ ذلك الموقف (وذلكَ الفِعْل) قدنُظِرَ إليهِ، بعبارةٍ أُخرَىْ، ومِن عِنْدَ حدِّ وِجْهَةِ نظرِ تلك المؤسَّسَاتِ جميعِهَا، ليس من حيثُ كَوْنِهِ موقفَاً مُشَكِّلاً لمَفهُومٍ فِعْلِيٍّ (عَيْنِيٍّ) أصيلٍ لَهُ كينُونَةٌ مُستَقِلَّةٌ بذاتِهَا وإنَّمَا من حَيْثُ اعتبارِهِ، ببساطَةٍ، مُجرَّدَ موقفِ تَخَلٍّ سِلْبِيٍّ عن موقفٍ آخرٍ. غَيْرَ أنَّ فِكرَةَ اللاعُنف ليست هي أبدَاً كما تُصوِّرُها تلك المؤسَّساتُ العتيدَةْ. ثُمَّ إنَّها- تلكَ الفِكرةُ- قد هُمِّشَتْ، مِن قِبَلِ تلكَ المُؤسَّسَاتِ عَيْنِهَا، لأنَّها أحد الأفكار الثَّوريَّة الحقيقيَّة النَّادِرَة إذْ هِيَ فِكْرَةٌ تنشُدُ تغييرَ طبيعَةَ المُجْتَمَعِ على هيئةٍ كُلِّيَّةٍ؛ فِكْرَةٌ تُشَكِّلُ تهديدَاً للنِّظَامِ المُؤَسَّسِ السَّائد. عليهِ عُوْمِلَتْ الفِكْرَةُ إِيَّاهَا، دَوْمَاً، على أنَّهَا نَهَجٌ عَمِيْقَ الخُطُورَةْ.
إنَّ مُحَبِّذِي سبيلِ اللاعُنف- أولئِكَ الأُنَاسُ الخَطِرُون- قد كانُوا دومَاً حاضِرِيْنَ عِنْدَ كُلِّ عِهُودِ التَّاريخِ، يُسائِلُونَ "عَظَمَةَ" شخصِيَّاتٍ من أمثَالِ يوليوس قيصر ونابليون و"الآباء المُؤسِّسين" وروزيفيلت Roosevelt وشَيْرشِلْ Churchill. وإزَاءَ كُلِّ حربٍ صليبِيَّةٍ وثَوْرَةٍ دَمَوِيَّةٍ عنيفَةٍ وحربٍ أهليَّةٍ كان هُنالِكَ، دَوْمَاً، أُولئِكَ الذين حاجُّوا، بِجَلاءٍ عظيمٍ، بأنَّ العُنْفَ ليسَ لا أخلاقِيَّاً فَحَسْبْ، وإنَّمَا حتَّى هُوَ قد كان، كَذَلِكَ، وسيلَةً أَقَلَّ فَعاليَّةً لتحقيقِ غاياتٍ محمُودَةْ. القَضِيَّةُ المَعْنِيَّةُ هُنَا يُمْكِنُهَا أن تُؤَسَّسَ على أنَّهُ لم تكُنْ الثَّورَةُ الأمريكِيَّةُ هي التي أمَّنَتْ الاستقلال عن بريطانيا، ولا الحرب الأهليَّة الأمريكيَّة هي التي حرَّرَتْ الرَّقيق، ولا الحرب العالميَّة الثَّانية هي التي أنقَذَتْ اليَهُودْ. غَيْرَ أنَّ ذاكَ الإِمْكَان لم يُعْتَبَرْ إلا نادِرَاً بسببِ أنَّ قياصرة ونابليونات التَّاريخ قد اسْتَخْدَمُوا، دَوْمَاً، نُفُوذَهُم لإِخْمَادِ أصواتِ أولئِكَ الذين قد يَتَحَدُّونَ ضَرْوَرَةَ الحرب. ثُمَّ إنَّ أولئِكَ القياصرة، كما لاحظ نابليون بونابرت، هم الذين يُمكَّنُونَ من كتابةِ التَّاريخْ. عليهِ يغدُو من قَتَلُوا هُمْ ذَاتُ من يُبَجَّلُواْ. غَيْرَ أنَّ هُنَالِكَ تَاريخٌ آخَرٌ يَتَدَبَّرُ أمْرَ بَقَائِهِ.
إنَّهُ- ذلكَ التَّاريخُ الآخَرُ- يَبْقَىْ، بيدَ أنَّ اللاعُنفَ يَظَلُّ، في الواقِعِ، رَفْضٌ مِن عِنْدَ الهَامِشِ مِنْ قِبَلِ مَفْهُومٍ مُهَمَّشْ. وقد لاحظَت حَنَّا أَريْنْدَتْ Hannah Arendt، في دراسَتِهَا الصَّادِرَة في العام 1969م وبعنوان "عن العُنفْ"، أنَّهُ فِيمَا من المُسْتَطَاعِ الاتِّفاقُ، على نحوٍ عالمِيٍّ، على أنَّ العُنْفَ قد كانَ أحدَ المُحرِّكَاتِ الأساسيَّةِ للتَّارِيْخِ لم يَدْرُسْ المُؤَرِّخُون والعلماء الاجتِمَاعِيُّون، إلا نادرَاً، موضُوعَ العُنْفْ. واقتَرَحَتْ حَنَّا أريندت أنَّ ذلكَ قد كانَ بِسَبَبِ أنَّ العُنْفَ قد كانَ من الشِّيُوعِ في النَّشاطِ الإنسانِيِّ على حيثٍ أوصَلَهُ إلى حَدِّ "اعتبارِهِ أمرَاً مُسَلَّمَاً بِهِ ومِنْ ثَمَّ تَمَّ تَجاهُلُهُ". إنَّ العُنْفَ عُنْصُرٌ رئيسٌ في الوضعيَّةِ البَشَرِيَّةِ فيما اللاعُنف سوى استجابَةٍ ... لتلكَ الحقيقة. ما الذي يعنيِهِ ذلكْ؟ لئن نحنُ كُنَّا قد عِشْنَا في عالمٍ لم تكُنْ لديهِ كلمةٌ للحرب سوى "اللاسلام"، أيُّ نوعٍ من العوالم قد يَكُنْ قد كَانَهُ ذاك العالم؟ ليس لمثلِ ذاك العالم أن يَكُنْ قد كانَ، بالضَّرُورَةِ، عَفِيَّاً من الحرب، لكنَّهُ قد يَكُنْ قد كانَ عالمَاً حُسِبَتْ فيه الحربُ انحرافَاً ونشاطَاً هامشيَّاً وليس ذا خَطرٍ كبيرْ. إنَّ وِجْهَةَ النَّظَرِ المُعْتَنَقَةَ، من قِبَلِ مُعظَمِ الثَّقَافَاتِ، على نِطاقٍ واسِعٍ، غيرَ أنَّهَا نادرَاً ما يُعبَّرُ عنها، بِمَعْنَى كونِها ضمنيَّة، هي أنَّ العُنْفَ حقيقيٌّ واللاعُنْفَ لا حقيقِي. لكنَّ عندما يصيرُ اللاعُنْفَ حقيقَةً يَغْدُو قُوَّةً عَظِيْمَةْ.
اللاعُنفُ ليسَ هو ذاتَ السُّلْمَوِيَّة Pacifism التي لديها كلِمَاتٌ مُستَقِلَّاتٌ عديدَاتٌ تفي بمعناها. ثُمَّ إنَّ السُّلْمَوِيَّة Pacifism تُعَامَلُ على أنَّهَا، بالكَادِ، وضعيَّةٌ نفسيَّةْ. إنَّهَا حالَةٌ للعقلِ والنَّفس، وهي حالةٌ سلبيَّة (سُكُونيَّة) فيما اللاعنف نَشِطٌ وحَرَكِيٌّ، كما وهي "غير مؤذِيَة" ومن ثَمَّ أيسَرَ على القبُولِ من اللاعنف الذي هو خَطِرْ. وحين قال السَّيِّد عيسى المسيح إنَّ على الضَّحيَّة إدارةَ الخَدِّ الآخر كان يدعو للسُّلمَوِيَّةPacifism .غيرَ أنَّهُ حينما قال إنَّ عَدُوَّاً ما، أو آخر، ينبَغِي أن يُكْسَبَ خَلَلَ قُوَّةِ الحُبِّ كان هُوَ يدعُو إلى اللاعُنفْ. إنَّ اللاعُنف، تماماً مثل العنف، وسيلةٌ للاستمالة، تقنيةٌ للنشاط السِّياسي ووصفَةٌ للغَلَبَةْ. غير أنَّ ابتداع وسائل اللاعُنف- مثل المُقَاطَعات، الاعتِصامات، الإضرابات، مسرح الشَّارع، التَّظاهُر، يَتَطَلَّبُ قدرَاً من الخَيال أكثرَ بكثِيْرٍ من استِخدام العُنف. ثُمَّ إنَّهُ ليس هُنالِكَ، دَومَاً، اتِّفَاقٌ على ما الذي يُشِكِّلُ عُنْفَاً، سيَّمَا وأنَّ بعض المُكافِحينَ على سبيلِ اللاعُنف يُؤمِنُونَ بأنَّ المُقاطَعاتِ ومُخْتَلَفِ شُكُولِ الحَظْرِ التي تُسبِّبُ جُوعَاً وحِرْمَانَاً قد تُعَدُّ شُكُولاً من أشكالِ العُنف فيما يعتَقِدُ آخرُون أنَّ استِخدام وسائِلِ قُوَّةٍ أَقَلَّ فَتْكَاً، مثل قذف الحجارة، أو الرُّصاصات المطَّاطيَّة، شَكْلٌ من أشكال اللاعُنفْ. غير أنَّ المُعْتَقَدَ الأساسي في كُلِّ ذلِكَ هو أنَّ أشكال الاستِمالة التي لا تستَخْدِمُ قُوَّةً فيزيائيَّة، ولا تُسَبِّبُ معاناةً، أَكْثَرَ فعَالِيَّةً وأنَّهُ فِيمَا كثيرَاً ما تَكُنْ هُنالِكَ حُجَّةٌ أخلاقيَّةٌ لِنهَجِ اللاعُنف يَبقَىْ أُسُّ مُعتَقَدِ وَسَبِيْلِ اللاعُنف سِيَاسِيَّاً وذَلِكُم الأُسُّ هو أنَّ اللاعُنف أَكْثَرَ فَعَالِيَّةً من العُنف وأنَّ العُنْفَ لا يَفْلَح، في غاية الأمرْ.
قد ابْتَدَعَ موهاندس غانديMohandas Gandhi كَلِمَةً للاعُنف هي "ساتياقراهَا"،وذلكم قد اشتَقَّهُ من كلمَةِ "ساتيَا"، التي تعنِي لُغَةً، عند الهِنُود، "الحقيقَة". وقد عَنِي غاندي بكلمة "ساتياقْرَاهَا"، حرفِيَّاً، "الاعْتِصَام بالحقيقَةْ" أو "قُوَّة الحقيقة". ومن المُثير للانتباه هُنَا أنَّهُ رُغْمَ أنَّ تعاليمَ غاندي وتقنِيَاتِهِ قد كان لها أَثَرٌ نَافِذٌ في ناشطين سِيَاسِيِّين في مُختَلَفِ أرجَاءِ العالم لَمْ تَلْقْ كلمتُهُ التي ابتَدَعَهَا للاعُنف، ساتياقْرَاهَا، رَوَاجَاً بِقَدْرِ رَوَاجِ تعاليمِهِ وتقنِيَاتِهِ.
كُلُّ الأديانِ ناقَشَتْ قُوَّةَ اللاعُنف وشَرَّ العُنْفْ. ولا نَلْفَىْ، في هَذَا المُتَّصل، للدِيانَةِ الهِندَوسِيَّة، التي تزعَمُ أنَّهَا أَقْدَمُ دِيَانَةٍ في العالم، رُغْمَ أنَّ تاريخَ تَأسِيْسِهَا ومُؤَسِّسِهَا ما يزالان مَجهُولين، موقفَاً واضحاً من فلسفةِ وسبيلِ اللاعُنفْ. ذَلِك الالتِبَاسُ ليسَ مُدْهشَاً بالنِّسْبَةِ لِدِيَانةٍ مُوغِلَةٍ في القِدَمِ وليس لها عَقِيْدَةٌ مَرْكَزِيَّةٌ أو قسَاوِسَةٌ رسميُّون وذَاتَ وَفرَةٍ مُفرَطَةٍ في الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ، الآلِهَةِ، المَجامِيْع الأُسْطُورِيَةِ والنِّحَلْ. ورُغْمَ كَثَرَةِ تِردادِ الهِندوس لهذه الحِكمة المُوجَزَة: "أهيمسَا بارامُو أهارماه": اللاعُنف هو السَّبيلُ الأَسْمىْ، لا تُشَكِّلُ تلكَ الحِكْمَةُ الجَّامِعَةُ قَاعِدَةً راسِخَةً في ديانَتِهِم. إنَّ العُنْفَ مَسْمُوحٌ بهِ في الدِّيانَةِ الهِنْدَوسِيَّة وإِنْدرا Indra تُصَوَّرُ عِنْدَهُم إلهَةٌ هِنْدَوسيَّةٌ حربيَّةَ الهيئَةْ. غَيْرَ أنَّ هُنالِكَ، كذلِكَ، كِتابَاتٌ عديدةٌ لحُكماءٍ هندوس ضِدَّ العُنف، خَاصَّةً في كِتابٍ معرُوفٍ باسم "المهابهرَاتَا Mahabharata. ثٌُمَّ إنَّ الحُكَمَاء الهِنْدَوسْ قد نَزَعُوا نَحوَ رؤيَةِ سبيلِ اللاعُنف على أنَّهُ مِثَالٌ عَصِيَّ التَّحَقُّق. إنَّ اللاعُنف الكامل قد يعنِي عدم إيذَاء أيِّ كائنٍ حَيٍّ. وقبد شَجَّعَ الحُكماء الهُنود اتِّخَاذَ نَهجِ الحياةِ النَّبَاتِيِّ تَجَنُّبَاً لإيذَاءِ الحيوانات. وقد عَمَد الجَّيْنِيُّونChainists ، الذين يَتِّبِعُونَ دِيَانَةً أُعْجِبَ بها غاندِي، إلى إِبْقَاءِ أفواهِهِم مُقَنَّعَةً حتَّى يضمنُوا لم يَسْنَنْشِقُوا، دُونَ قصْدٍ، حشرَةً صغيرَةً. غيرَ أنَّ الهِنْدَوسيَّةَ تُقِرُّ بأنَّ أكثَرَ النَّباتِيِّيْنَ الأكْثَرَ صَرَامَةً "وراديكاليَّةً" يأذُونَ النَّباتَات إذ هُم يقتُلونَها كي يحيُونْ. نَعْمْ، قَدْ قِيْلَ أنَّ قِدِّيْسَاً ما، أو آخر، قد يَكُنْ بُوُسْعِهِ الحَيَاةَ على الهواء، لكن الهِندوسيَّة تُقِرُّ بأنَّ ذلكَ مستحيل، عليهِ يغدُو، من المنظُورِ الإِنسَانِيِّ العَمَلِيِّ، عدمُ فِعلِ الأذَى على نحوٍ كاملٍ ومُطلَقٍ نُشْدَانَاً غَيْرَ مُمْكِن التَّحَقُّقْ. كَتَبَ غاندِي، ذاتَ مَرَّةٍ: "اللاعُنف التَّام كَمَالٌ مُطلق. إنَّهُ غايَةٌ يسعى نحوها النَّوعُ الإنسَانِيُّ، طبيعِيَّاً، وإِنْ لا شُعُورِيَّاً". هُو قد اعتَقَدَ أنَّ الكائنات الإنسانِيَّة ما فَتِئَتْ تَسْعَى نحو تحقيقِ الكمالِ الإنسانِي وأنَّ العُنْفَ خَاصَّيَّةً بَرْبَرِيَّةً نُكُوصِيَّةً لم يَتَيَسَّرُ تجاوُزُهَا بَعْدْ. ثُمَّ إنَّ الكائِنَ الإنسَانِيَّ الذؤي يُحقِّقُ الكَمَالَ في اللاعُنف قد لا يُضْحِيْ قِدِّيْسَاً وإِنَّمَا هو، كما قالَ غاندِي، "قد يغدُو إِنْسَانَاً حَقِيْقِيَّ الإنسَانِيَّةِ فَحَسْبْ".
إنَّ مفهُومَ الإنسان باعتِبَارِهِ كائِنَاً ناقِصَاً مُلْزَمَاً بالكَبَدِ على سبيلِ تَحصيلِ كَمَالٍ عَصِيَّ المَنَالِ يَصْبِغُ غَالِبَ الفِكرِ الإنسانِيْ. وقد كَتَبَ مُؤَسِّسُ الحركة اللاسُلطَوِيَّة Anarchism Movementالفِرِنْسِيُّ في القرن التَّاسع عشر، بيير-جوزيف برودونPierre-Joseph Proudhon، في كتَابِهِ المُسَمَّى Philosophie du progress("فلسفة التَّقَدُّم")، الذي صدر في العام 1835م: "نحنُ نُولَدُ قابلينَ للاكتِمال، غيرَ أنَّنَا لن نُصِرْ، أبدَاً، كاملين". إنَّ الحُجَّةَ التي كَثِيرَاً ما تُرَدَّدُ ضِدَّ اللاعُنف، والتي مُؤَدَّاهَا أنَّهُ من طبيعة الإنسان أن يَكُنْ عنيفَاً (ومن ثَمَّ كان ذلكَ، من منظُورِ تِلكَ الحُجَّة، بلا شك، سببَ استِحقاق العُنف، بخِلافِ اللاعُنف، لِكَلِمَةِ "إِيْجَاب" خاصَّة بهِ في كُلِّ اللُّغاتِ البَشَرِيَّةْ)، تَبْقَىْ مُفْتَقِرَةً إلى الصِّحَّة على ضُوءِ الحُجَّة الأخلاقيَّة الغالبة الرَّائِيَةَ أنَّهُ من واجِبِنَا (الإنساني-الأخلاقِي) أن نُحاوِلَ أن نَكُنْ أفضَلَ (إنسَانِيَّاً وأخلاقِيَّاً) مِمَّا نَحْنُ عليهِ.
وتُصِرُّ الهِندوسيَّة وغاندي هُنَا على أنَّ اللاعُنفَ لا يجيءُ، أبَدَاً، من موقِعِ الضَّعْفِ وإِنَّمَا من مَوقِعِ القُوَّة وعلى أنَّ أَقْوَىْ النَّاس وأكثَرَهُم انضباطَاً وتَوازُنَاً هم فقط من قد يأملُونَ في تحقِيْقِهِ، في أنفُسِهِمْ وفي الآفاقْ. عليهِ يُضْحِي من هُمْ ليسَ بِمُسْتَطَاعِهِم الدِّفاع عن أنفُسِهِم بِغَيِرِ وسيلَةِ العُنْف، أولئِكَ الذين يفتقرُونَ إلى القُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ الكافِيَةِ لمُقابلَةِ وِحْشِيَّةِ غريمِهِم الفيزيائيَّة، إِمَّا بِفِعْلِ ضعفهم الخاص أو بِفِعْلِ شِدَّةِ وعَمَدِ وِحشِيَِّةِ العدُو، مُضَّطرينَ لاستخدام العُنف الفِيزيَائِيِّ للدِّفاعِ عن أنُفُسِهِمْ. هذا ويُعدُّ الاستِسلامُ السِّلبِيِّ للوحشيَّة خَطِيْئَةً في الدِّيَانِةِ الهِنْدُوسِيَّةْ.
***
عِنْدَمَا يُندِّدُ الصِّينيُّون بالمِيُولِ السَّلامِيَّةِ في ثقافتهم عادةً ما هُمْ يَلقُونَ باللاَّئِمَةِ بِشَأْنِهَا على الدِّيَانَةِ البُوذِيَّةْ. وذلكُم لأنَّ البُوذِيَّةَ هي الدِّيَانَةُ الشَّرقِيَّةُ المُهِمَّةُ الوحيدَةُ في الصِّين ذاتُ الأصلِ الأجنَبِيِّ، سَيَّمَا وأنَّ مكانُ ميلادِ بُوذَا، مُؤَسِّسُ تِلْكَ الدِّيانَةِ في القرن السَّادس قبل الميلاد، كان بقُربِ الحدود الهنديَّة-النِّيباليَّة. وقد حاجَّ كثيرُون من الصِّينِيِّين، في هذا المُتَّصَلِ، بِأَنَّهُ إن تُشَكِّلَ السَّلاميَّةPacifism ضعفَاً قوميَّاً سَيَكُن السَّبَبُ الأَصْلِيُّ لذلكَ، بالتَّأْكِيدِ، "أُناسٌ غُربَاءْ". عليهِ قال هُو شِيْHu Shi، ذلك الأكاديمِيُّ الذي تلقَّى تعليمه بجامعة كولومبيا وامتدَّت حياتُهُ فيما بينَ عامي 189م و926م، "إنَّ البُوذِيَّة، التي سادت على الحياةِ الدينيَّة الصِّينِيَّة لعِشرينَ قرنَاً، قد عزَّزَت الميُول السِّلميَّة لشعبِ كان أصلاً مفرطاً في سلميَّتِهِ". ما كان يُضْمِرُهُ هُوْ شِيْهنا هو أنَّ رفضَ العُنف يجعلُ الشَّعبَ سِلبيَّاً، خاصَّةً وأنَّ الكثيرينَ من الصِّينِيِّين قد اعتقَدُوا، في بواكيرَ القرن العشرين، أنَّ شَعبَهُم قد أضحَىْ مُغَالِيَاً في سِلبيَّتِهِ. غيرَ أنَّ ذلكَ قد تجاهلَ، في رأيِنَا، حقيقَةَ أنَّ الدِّياناتِ والفلسفاتِ التي رفضت العُنف لا تُشَجِّعُ السِّلبِيَّة وإنَّمَا هي تَحُضُّ على الإيجابِيَّة والفَاعِلِيَّة بِوَسَاطَةِ نَهجٍ آخرٍ هو نَهجِ اللاعُنفْ.
تَمنَعُ البُوذِيَّةُ أَخْذَ الحَياةِ، غيرَ أنَّهُ يبدُو أنَّ هُنَالِكَ نِطَاقٌ واسِعٌ من التَّأويلاتِ لذلكَ الموقِفِ البُوذِيِّ إذ هو يعنِي، في بعضِ البُلدان، اتِّخَاذَ نَهْجِ الحياةِ النَّبَاتِيَّة فيما هو يعنِي، في إقليم التِّيبيتْ Tibet، رُبَّما بسببِ فَقرِ الحياةِ النَّبَاتِيَّةِ هُناكْ، وجُوبَ ذَبْحِ الحيوانات بطريقَةٍ "إنسَانِيَّةْ". لبُوذِيٍّ من التِّيبيت ذلكُم يعني، على كُلٍّ، عَكْسَ ما هو يعني ليَهُودِيْ. فالبِنِّسْبَةِ لليهُود يعنِي "الذَّبح الإنسانِي" الحزَّ النَّظِيْفَ لعُنْقِ الحيوان وإزالةَ الدَّمِ جميعَهُ في حين هو يعنِي في إقليم التِّيبيت وفاةَ الحيوانِ بكَتْمِ النَّفَسِ تَجَنُّبَاً لإراقَةِ الدَّمْ.
وفي حينَ أنَّ تعليمَ البُوذِيَّةِ بشأنِ أخذِ الحياةِ كان قد اُوِّلَ في الصِّينِ، على تَواتُرٍ، بأنَّهُ إدانَةٌ للعسكرتاريَّة لم يكُنْ ذلكَ هو الحال في اليابان آنَاءَ العُصورِ الوُسْطَىْ. ففي اليابان طَوَّرَت البُوذِيَّةُ "مَدرسة التَّأَمُّل" التي تُعرفُ، عامَّةً، باسمِ "زَيْن Zen" وقد أَضْحَىْ رُهْبَانُ بوذِيَّةُ الزَّينZen Buddhism ، في تِلْكَ العُصُورِ، مُحارِبِيْنَ وغَدَتْ صومعاتُهم قلعاتٍ حربيَّةْ.
كانت فِكرَةُ بُوذيَّةِ الزَّين الأصليَّة هي ضبطَ الجَّسَدِ حتَّى يَحْصَلُ بُلُوغُ مسنوىً أعلى من التَّأَمُّلْ. وفي القرن الرَّابع عشر الميلادي مُورِسَ ذاكَ التَّكنِيْك/النَّهج ليس فقط في حالِ التَّأَمُّلِ وإِنَّمَا كذلكَ في رِياضَاتِ السَّيْفِ والرِّمَايَةْ. ثُمَّ غدت بُوذِيَّةُ الزَّين، إثرَ مُضِيِّ ثلاثةِ قرُونٍ لاحقةٍ على ذلكَ، جُزءَاً لا يَتَجَزَّأْ من شفرة المُحارب في اليابان. غَيْرَ أنَّ تِلْكُمُو لم تَكُنْ هي إمَّا أوَّلَ مَرَّةٍ، أو آخرَ مَرَّةٍ، تُصَحَّفُ فيها دِيَانَةٌ ما، أو أُخْرَىْ، لأغراضٍ عسكريَّةْ. في البُوذِيَّة، كما في الهِنْدَوسيَّة، هُنالِكَ تَصَوُّرُ وُصُولِ الكائناتِ الإنسانيَّةِ لمستوياتٍ أسمَىْ، وأحدُ سُبُلِ تحقيقِ ذلكَ هو مَحْضُ العونِ لِكُلِّ الكائناتْ، غيرَ أنَّ البُوذِيَّةَ ليست هي المصدر الوحيد لفكرة اللاعُنف في الصِّينْ. ويبقى موقف الكونفوشيوسيَّة، التي هي نظامُ مُعْتَقَدٍ طُوِّرَ في الصِّين فيما بين عامي 722 و484 قبل الميلاد، من الحرب واللاعُنف أكثَرَ التِبَاسَاً حتَّى من موقف الهِندوسيَّة. ثُمَّ إنَّهُ ليس من الواضِح تمامَاً، فوقَ ذلكَ، إن تَكُنْ الكونفوشيوسيَّة، في الأساس، ديانَةً، سيَّمَا وأنَّ هنالِكَ كثيرينَ يُحبِّذُونَ وصفَها بأنَّهَا فلسفة أخلاقْ. وهُنالِكَ، أيضَاً، عدم اتِّفاق، في هذا المُتَّصَل، بشأنِ مدى دور كونفوشيوس، المُعاصر لبُوذَا، والذي اسمُهُ الحقيقِيُّ هو كونغ فُوزِيْ Kong Fuzi، والذي عاش فيما بينَ عامَي 551 و479 قبل الميلاد، في إِنشَاءِ نظام المُعتَقَد الصِّيني المُشارَ إليهِ آنِفَاً باسم "الكونفوشيوسيَّة". على كُلٍّ، عُرِفَ كتابُ "التَّحليلات The Analects"، الذي هو عبارةُ عن كُشكُول من أقوالِ كونفوشيوس كان قد جُمِّعَ بعد زمانٍ طويلٍ من بعدِ وفاتِهِ، وظيفَةَ الحُكومة بأنَّها توفير المأكل والمشرب ("المعاش") وإعداد الجِّنُود واكتساب ثِقة الشَّعبْ. وعِندما سُئِلَ كونفوشيوس عمَّا ينبغِي لهُ أن يُقَدَّمَ، من تلكَ المهام، في السَّنواتِ العِجَافِ أجابَ قائلاً: "الاستغناء عن الجِّنُودْ". إنَّ فِكرةَ أنَّ إعدادَ الجَّيشِ ضروريٌّ للحكومةِ والحُكم، بيدَ أنَّهُ أقلَّ ضرُورةً للحكُومَةِ والحُكْمِ من مهام ووظائف أخرى، تتخلَّلُ كُلَّ كِتابِ"التَّحليلات The Analects"إيَّاهْ.
لم يَكُنْ كونفوشيوس سَلامِيَّاً Pacifist، كما وهو لم يُقِمْ تعالِيْمَ حول قُوَّةِ اللاعُنفْ. غيرَ أنَّ مُؤَلَّفَهُ المُسَمَّى "التَّحليلات" يرفُضُ، أحيانَاً، مفهومَ عُنفَ الدَّولة فيقُولُ إنَّهُ إن كان قد قُيِّضَ لأُنَاسٍ خَيِّرِين إدارةَ الحُكُومَةِ لمائة عامَاً لَكَانَ العُنْفُ قد تَمَّ تجاوُزُهُ واسْتُغْنِيَ عن عقوبَةِ الإعدامْ. وحينَ يُؤْتَىْ إلى السُّؤالِ عن كيفِيَّةِ التَّعامُلِ مع الجَّيرانِ البَرابرة- وذلكُم السُّؤالُ وإ‘جابَتُهُ التَّقليْدِيَّةُ المَزْعُومَةَ المَنْطِقيَّة كان هُوَ الأُسَّ التَّاريْخِيَّ المُعتَادَ لِحُجَّةِ الحملات العسكريَّة في الصِّين- ينصحُنا كتابُ "التَّحليلات" قائلاً: "إنْ لَمْ تُهًَادِنُكَ الشِّعُوبُ الأُخْرَىء ابنِ ثَقَافَةً وشَخْصِيَّةً ومن ثَمَّ اكسبهُمْ، وعندمَا يَتِمُّ كسبُهُم اعطِهِمْ أمنَاً وأَمَانَاً". تِلْكَ جُمْلَةٌ بليغَةٌ مُفْصِحَةٌ عن مدخلِ نَهج اللاعُنف للنَّشَاطِ السِّيَاسِيْ.
مَعَ كُلِّ ذَلِكَ، جاءَ أقوَىْ مَوْقِفٍ صِيْنِيٍّ بِشَأْنِ اللاعُنف في تَضَادٍّ مع كونفوشيوس ومِن قِبَلِ رَجُلٍ كان قد دُعِيَ باسم مُوزِيْ Mozi، عاشَ فيما بينَ عامَيْ 470 و390 قبل المِيْلادْ. قد هاجَمَ مُوزِي ذاكَ، على تَوَاتُرٍ، الكونفوشيوسِيِّين ووصمَهُم بِكَونِهِم أرستقراطِيِّين، الشَّيءُ الذي جعل بعضُ الأكادِيْمِيِّين يَسْتَنْتِجُونَ أنَّهُ قد جاءَهُم من طبقَةِ العَبيدْ. غيرَ أنَّ الحقيقَةَ قد تَكْمُنُ، بخِلافِ ذلكَ الاسْتِنْتَاج، في كَوْنِه، مثل مُتَمَرِّدِين آخرين اشتَمَلُوا على عيسَى المسيح وغاندِيْ، قد اختارَ أن يُنَاصِرَ أفقَرَ طبقَةٍ من النَّاسِ مِنْ عِنْدَ مَوقِفِ الاحتِجاجِ ضدَّ معاملتِهِم غيرَ المُنْصِفَةْ. وفيما كان كونفوشيوس صَوتَاً من أصواتِ المُؤَسَّسَةِ السَّائِدَةِ في زَمَانِهِ كان مُوزِي مُتَمَرِّدَاً. وفِيمَا تَصَوَّرَ كونفوشيوس تراتُبِيَّةً للحُبِّ جعلَ العاطفةَ الأعظَمَ فِيهَا للعائلة دعا مُوزَِي إلى الحُبِّ الكونِيِّ ("عالميَّة الحُب")، أو، بالصِّيْنِيَّة، chien ai، وَوَكَّدَ مبدأ عون ونُصرة الفقراء. وفي وصفِهِ لمفهوم الـ chien ai(الحُب الكوني؛ عالميَّة الحُب) كتب مُوزِي هذه الجُّملَة: "مَن يقذِفُنِي بخُوخَةٍ أهبهُ برقَوقَة".
قد رأى مُوزِي في مفهُومِ الحُبِّ المُتَبَادَل، chien ai، المفتاح لتصحيحِ علل العالم فَتَفَكَّرَ بهذا الحديث: "من أينَ تأتِي الاضِّطرابات؟ إنَّهَا تَنْهَضُ من فُقْدَانِ الحُبِّ المُتبادل، الابنُ يُحبُّ نفسَهُ ولا يُحبُّ أبيهِ لذا هو يحتالُ على أبيهِ بُغْيَةَ كسبِهِ الخاص. والابنُ الأصغر يُحبُّ نفسَهُ ولا يحبُّ أبيهِ، ومن ثَمَّ يخدعُ أخيهِ الأكبرَ بُغْيَةَ كَسْبِهِ الخاص. ذاتُ الشَّيء ينطبقُ على مُوظَّفِي الدَّولةِ وأولياءِ أمورهم. ذلكَ ما يدعُوهُ العالمُ الاختِلال. وعلى ذاتِ المِنْوالِ يُحبُّ الأبُ نفسَهُ وليس ابنَهُ فيغُشَُّ ابنَهُ من أجلِ مصلحتِهِ الخاصَّةْ. مِثلُ ذلكَ يَحْدُثُ، أيضَاً، مع الابن الأكبر ووليِّ أمرِهِ. ذلكُم كُلُّهُ يَجِيءُ من فُقدَانِ الحُبِّ المُتَبَادَلْ. إنَّ مسألةَ أولئِكَ مثل مسألة نَهَّابين وقُطَّاع طُرق يحبُّونَ، مَثَلهُم مَثَلُ آخرينَ من النَّاس، بيُوتَهُم وأهلَ بِيُوتِهِم، بيدَ أنَّهُم ليست لهم مَوَدَّةٌ مع بيُوتِ آخرين ومن ثَمَّ هم ينهبُونَ بيُوتَ الآخرينَ ابتِغَاءَ مصالِحٍ ومآربٍ تخُصُّهُمْ. ومَثَلُ أولئِكَ، كَرَّةً أُخْرَىْ، مسؤُولُو الدُّول والأُمراء الذينَ يَشُنُّونَ الحِرُوبَ ضِدَّ البُلدان الأُخرَىْ لأنَّهُم يُحبُّونَ بُلدَانَهُم وليس البُلدان الأُخرَى ومِن ثَمَّ هُمْ يَسْعُونَ إلى الاستِحواذِ على منافعٍ لبُلدانِهِم على حسابِ البُلدان الأخرىْ. إنَّ السببَ الجَّذْرِيَّ لِكُلِّ الاضِّطرابات في العالم هو فُقدان الحُبِّ المُتَبَادَلْ".
مضى مُوزِي على ذاكَ السَّبيلِ فَأَعْمَلَ رَأْيَاً قُيِّضَ لهُ، لاحقَاً، أن يُتَفَوَّهُ بِهِ في الدِّيانَةِ اليَهُودِيَّةِمِن قبَلِ الحاخام هِليل Hillelالذي عاشَ في القرنِ الأوَّلِ المِيلادي، ثُمَّ مُعاصِرُهُ عيسى المسيح الذي سمَّاهُ "القاعِدة الذَّهَبِيَّة". واصلَ مُوزِيْ حديثَهُ قائلاً: "ولئِنْ يُعتَبَرُ كُلُّ إنسانٍ الشُّخُوصَ الآخرِيْنَ كمَا يَعْتَبِرُ نَفْسَهُ هُوَ من الذي قد يُوقِعُ، حِيْنذَاكَ، الألم والأذَىْ بالآخرينْ؟ ولئِنْ يَعْتَبِرُ أولئِكَ بيُوتَ الآخرينَ مِثْلَمَا يَعتَبِرُونَ بيُوتَهُم من الذي قد يَنْهَبُ، آنَذَاكَ، بيُوتَ الآخرينْ؟ عليهِ لن يَكُنْ، هُنَالِكَ، والحالُ كذلِكَ، قُطَّاع طُرق أو نهَّابُونْ. ولئن يَعْتَبِرُ الأُمَرَاءُ البُلدانَ الاُخْرَىْ مثلَمَا يَعتَبِرُونَ بُلدانَهُم من الذين قد يَشِنُّونَ، وَقْتَذَاكَ، حُرُوبَاً على بُلدانٍ أخرَىْ؟ عليهِ لن تعُدْ هُناكَ، والحالُ كذَلِكَ، حربٌ".
تقتربُ اللُّغَةُ الصِّينِيَّةُ، أكثَرَ من مُعظَمِ اللُّغاتِ الأُخْرَىْ، من إِنْشَاءِ كَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ، وبِصيغَةِ الإِيْجابِ، تعنِي اللاعُنف. وهُنَالِكَ في الدِّيانَةِ التَّاويَّة Taoismمَفْهُومٌ مُجَسَّدٌ في كلمَةِ teb. تلكَ الكلمة لا تعنِي بالضَّبْطِ اللاعُنف، الذي هو قُوَّة إيجابيَّة، وإنَّمَا هي تَعْنِي، على الأَدَقِّ، فضيلَةَ عَدَمِ القِتَالِ ومِنْ ثَمَّ يَكُنُ اللاعُنفُ، بِذَلِكَ، هو السَّبِيلَ إلى تحقيقِ حالِ الـteb- فضيلة عدم القِتالْ.
تَتَأَسَّسُ الدِّيَانَةُ التَّاوِيَّةُ Taoism على تعاليم لاو تسو Lao Tsuالذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد والذي يُعتَقَدُ أنَّهُ هو مُؤلِّفُ "كتابِ التَّاو Tao Te Ching- شِرعَةُ السَّبيلِ والفضيلَة". كلمةُ "التَّاو Tao" نفسها تَبْقَىْ عَصِيَّةً على التَّرجَمَةْ. وهي كثيرَاً ما أُشِيْرَ إليهَا في كتابِ "التَّحليلات The Analects " لكونفوشيوس. إنَّهَا كلمَةٌ تعنِي، عمُومَاً، قُوَّةً كونيَّةً مُحقِّقَةً للتَّوازُنِ يُقَالُ عنها، أحيانَاً، أنَّهَا هي ما يَصُنْ الطَّبيعَةَ عن الوِقُوعِ في الفوضَىْ. يقولُ "كِتَابُ التَّاوْ": إنَّ الحَاكِمَ المُفْعَمَ بالتَّاوTaoلن يَسْتَخْدِمَ قُوَّةَ السِّلاحِ لإِخْضَاعِ البُلدان الأُخْرَىْ". غَيرَ أنَّهُ أضافَ أنَّهُ ينبغِي لِكُلِّ بلدٍ الحَوْزَةَ على قُوَّةٍ عسكريَّةٍ للدِّفاعِ عن نفسِهِ وأنَّ جاهِزِيَّتَهُ العسكريَّةَ تِلْكِ سَتُشَكِّلُ رادِعَاً واقِيَاً من العُدوانِ ضِدَّهْ. ويُعبِّرُ "كتابُ التَّاو" عن ذاتِ المعنَى بقولِهِ إنَّ جيشَ أيِّ بلدٍ ينبغِي عليهِ أن يكُنْ "مُسْتَعِدَّاً للدِّفاعِ عن بِلادِهِ، غيرَ أنَّهُ ليسَ بِتَيَّاهٍ أو فَخُورْ". نِصْفُ السَّبيلِ نحوَ اللاعُنف هذا ليس هو قطعَاً اللاعُنفْ، سَيَّمَا وأنَّ جِمَاعَ التَّاريخِ يُظْهِرُ أنَّ الأُمَمَ التي تبني قُوَىْ عسكريَّةً بِحُجَّةِ ردعِ العُدوان ضِدَّها تنتهي، بالفِعلِ، إلى استِخدامِ تلكَ القُوَىْ وذلكُم دَرْسٌ مُقْلِقٌ في عصرِ "الرَّوادِعِ النَّوَوَيَّةِ" هذا.
مع ذلكَتشتَمِلُ الدِّيانَةُ التَّاويَّة، كما الهندوسيَّة، غلى فِكرَةِ أنَّ الكائناتَ الإنسانيَّة تسعَىْ، دومَاً، على سبيلِ نِشُوءٍ وارتِقَاءٍ لذَا هي كُلَّمَا تتسامَىْ على سبيلِ ذاتِ الارتِقَاء كُلَّمَا تَقِلُّ حاجَتُهَا إلى العُنفِ الفيزيائِيْ. أُوْرِدَ في "كتابُ التَّاو" أنَّ "الفارسَ الماهِرَ ليسَ شَغُوفَاً بالقِتال. الإستراتِيْجِيُّ الماهرُ لا يغضب أبدَاً. ذلكَ الماهرُ في غَلَبَةِ أعدائِهِ لا يُشاركُ في المعارك".
في الدِّيانةِ التَّاويَّةِ يعنِي الـteh كمالاً في الطَّبيعَةْ. وذلكُم، كما في الهِندَوسِيَّةِ أيضَاً، شيءٌ ليسَ إلا لِقِلَّةٍ من النَّاسِ القُدْرَةُ والشَّخصيَّةُ المُؤَهَّلَتَانَ للحياةِ على قَدْرِ كَمَالِهِ. ويَتَرَدَّدُ صَدَىْ المفهُومِ إيَّاهُ، كذَلِكَ، في المسيحيَّة على هيئةِ أفكارٍ وتعاليمٍ مُؤَدَّاهَا أنَّ المُتواضِعِين مُبارَكِينَ والآخرين هُمُو الأوَّلِيْنْ. ونَزِدُ على ذلكَ ونَقُولُ إنَّ في مشهَدِ الـteh "يغلبُ الألطفُ الأقوَىْ". وإنَّهُ، وِفقَ ذاتِ المَشْهَد، "ليس هُنالِكَ شيءٌ في العالمِ هَيِّنٌ مثل الماء. مع ذلكَ ليس ثَمَّةُ ما يفوقُ الماءَ في القُدْرَةِ على خَلْخَلَةِ الصَّلِدِ القَوِيِّ إذ أنَّ ليس هُنَالِكَ من سبيلٍ لتحويلِ سبيلِ الماءِ. عليهِ يغلبُ الضَّعْفُ القُوَّةَ، وتغلبُ النُّعُومَةُ الصَّلادَةْ. العالمُ يُدْرِكُ ذلكَ، غيرَ أنَّهُ ليس قادرَاً على ممارسَتِهِ".
إنَّ الأديانَ الشَّرقِيَّة، التي يَنْزَعُ الغَربِيُّونَ إلى اعتِبَارِهَا تَصَوُّراتَ أثيريَّة وليس بُمُسْتَطَاعِهَا الاشْتِغَالَ إلا في "أوهَامِ" أكثَرَ المِثَالِيِّيْنَ حُلُمِيَّةً، لها، في الواقعِ، جانبٌ براغماتِيْ. إنَّهَا تُدْرِكُ أنَّ العُنْفَ خطأ وأنَّ اللاعُنفَ هو السَّبيلُ الذي يَنْبَغِيْ لهُ أن يُتَّخَذَ، غيرَ أنَّهَا تُدْرِكُأيضَاً أنَّ الكائناتَ الإنسَانِيَّةَ ضَعِيْفَةٌ وغَيرُ كاملةٍ وأنَّ قِلَّةً مِن أَكْثَرِ أفرادِهَا ارتِقَاءً واستثنائِيَّةً فيما بينَنَا سوف يختارُونَ ذلكَ السَّبيلَ ويَسْتَمْسِكُونَ بهِ.
***
تشتَمِلُ الدِّيَانَةُ اليَهُودِيَّةُ، وهي ديانَةٌ عمرُها أكثر من 5,700 عاماً، على طَيَّاتٍ كُثُرٍ من القوانين والتَّعليقات على تلكَ القوانين. وهي دِيَانَةٌ مليئَةٌ بما يبدو أنَّهُ تناقُضاتٌ بشأنِ عِدَّةِ مسائلٍ من بينِهَا مسألة العُنفْ. ويُحاوِلُ حاخاماتُ تلكَ الدِّيَانَةِ مُصالَحَةَ التَّناقُضاتِ إيَّاهَا بِوَسَاطَةِ نِظَامِ أولوِيَّاتٍ تُعْزَىْ، وِفْقَهُ، أهَمِّيَّةٌ أكثَرَ لبعضِ الكتاباتِ أكثَرَ من غيرِهَا، كما وتَتَّخِذُ عِنْدَهُ بعضُ التَّعاليمِ، بعضُ الممارسات وبعضُ المُعتقدات موضِعَ الأولويَّةِ بالنِّسْبَةِ لتعاليمٍ ومُمَارَسَاتٍ ومُعتَقَدَاتٍ أُخْرَىْ. وطبعَاً ستَغْدُو، في تِلْكَ الحالَةِ، المُحَاجَّاتُ حولَ أيٍّ من تلكَ الكتاباتِ ينبغي لها أن تُقَدَّمَ على كِتاباتٍ أُخْرَيَاتٍ بلا نهايةٍ منظُورَةْ. عادَةً ما تكُنْ هُنَالِكَ، في الدِّيَانَةِ اليَهُودِيَّةِ، مساحةٌ للمُحَاجَّاتِ، غيرَ أنَّ لِذَاتِ الدِّيَانَةِ، كذَلِكَ، قِلَّةٌ من القوانينِ غيرَ القابِلَةِ للمُخالَفَةِ أو الاعتِراضْ. التَّوحيدُ هو الرُّكْنُ المَرْكَزِيُّ لتِلْكَ الدِّيَانَةِ وليس في ذلكَ استثناءاتٌ أو تنويعاتٌ ولا أيُّ شكلٍ من أشكالِ الوَثَنِيَّةِ مسمُوحٌ بهِ، كما ومن المقبُولِ عالميَّاً أنَّ الوصايا العشر، التي يُرْوَىْ عنهَا أنَّهَا قد عُهِدَ بِهَا إلى موسى، من قِبَلِ اللَّهِ، عِنْدَ جَبَلِ سيناء، مَرْكَزِيَّةٌ في تلكَ الدِّيَانَةِ وتُشَكِّلُ فيها مجمُوعةً قائدةً من القوانينِ الغيرِ قابِلَةٍ للتَّفاوض بشأنِهَا. وأوَّلُ الوصايا العشر تلكَ حولَ التَّوحيد، وثانيها يُحرِّمُ عِبادَة الأوثانْ. والوصِيَّةُ السَّادِسَةُ، من بينَ تِلكَ الوصايا، تقُولُ: "لا تَقْتُلْ". إنَّهَا واحدةٌ من أقصر الوصايا وهي غير مرفقة بأيِّ تعليقٍ، شَرْحٍ أو تنويعاتٍ عليها. هي لا تَقُلْ، كما يزعمُ كثيرُون من اليَهُود، "[لا تقتُلْ] عدا في حالاتِ الدِّفَاعِ عن النَّفسْ"، ولا هي تَقُلْ، كذَلِكَ، "[لا تقتُلْ] إلا عِنْدَ الضَّرُوْرَةِ القُصْوَىْ". إنَّ الوَصِيَّةَ إِيَّاهَا تُشَكِّلُ، بمُوجَزِ العِبارَةِ، واحِدَةً من أكثَرِ الجُّمَلِ الإعلانيَّةِ الواضِحَةِ في الإنجيل. غَيْرَ أنَّ من يَرْغَبُونَ في القتلِ والتَّقْتِيْلِ بمُستَطاعِهِم، مع ذَلِكَ، اللِّجُوءَ، على سبيلِ تبريرِ أفعالِهِم، إلى كِتاباتٍ يهُودِيَّةٍ أَقَلَّ أَهَمِّيَّةً، سيَّمَا وأنَّ كتاب "العهد القديم" ملآنٌ بِمَرْوِيَّاتٍ عن معاركٍ حربيَّةٍ وبتبريراتٍ لها، فوقَ ذلكْ. ذلِكُم- نُوكِّدُ هُنَا- لا يُبَدِّلُ حقيقَةَ أنَّ هُنَالِكَ قانونَاً أساسيَّاً في الدِّيانَةِ اليَهُودِيَّةِ يُوصيْ أفراد الكائناتِ الإنسانِيَّةِ بأنْ "لا يَقْتُلُوا". ثُمَّ إنَّ بقيَّةَ الإنجيل تشتملُ، في وسطِ كُلِّ ذلكَ الحديثِ عن المعاركِ وسفكِ الدِّماء، على رسائل أخرى كهذه الرِّسالةِ الدِّينيَّةِ المركزِيَّةِ الواردةِ في "كتاب ليفيتيكوس Leviticus": "حِبَّ جَارِكَ كمَا تُحِبُّ نَفْسَكْ".
قد مارسَ اليَهُودُ القُدَامَىْ الحرب، غيرَ أنَّهُم لم يشعُرُوا أبدَاً، فيما يبدُو، بالرَّاحَةِ بسببِ تلكَ المُمَارَسَةْ. وبخلافِ كثيراتٍ جِدَّاً من الثَّقافاتِ الحديثَةِ لم يحتفل أولئكَ اليهُود القُدَامَىْ بالانتصارات العسكريَّةْ. بلىْ، هنالِكَ عطلةٌ واحدةٌ في التَّقويمِ اليَهُودِيِّ مُخصَّصَةً للاحتفالِ بِظَفْرٍ عسكرِيٍّ هي عطلة "الشَّانُوكاه Chanukah". لكنَّ تِلْكَ، في الحقِّ، عُطلةٌ ما بعدَ إنجيليَّة مناسبتُها الاحتفالُ بنصرٍ أحرزَهُ جيشُ عصاباتٍ قادَهُ، في العام 166 قبل الميلاد، المكابيس the Maccabees ضدَّ حاكمِي فِلسطين من السِّيلييُوسِدْ the Seleucid الذين حاولُوا، بدعمٍ من بعضِ اليهُود، "تَخفِيفَ" الممارسة الدِّينِيَّة اليهُوديَّة التَّقليدِيَّة. لم يَكُنْ الحاخَاماتُ اليهُود مُرتاحينَ أبدَاً بشأنِ تلكَ العُطلَةِ ولم تحفظ الكتاباتُ التي تُسَجِّلُ الوقائعَ المُرْتَبِطَةَ بها جمعيَّةُ النُّصوصِ اليهُودِيَّةِ المُقَدَّسَة، كما ولم يبقْ الآنَ شيءٌ من تلكَ الكِتاباتِ سِوَىْ ما حُفِظَ منها في صُورَةِ ترجماتٍ باللُّغَةِ الإغريقيَّة التي كانت هي، في زمانِ تلكَ الوقائع، لُغَةَ المهزُومينْ. ثُمَّ إنَّ مُناسبةَ الشَّانُوكاه كانت دومَاً عطلةً ثانويَّةً ذاتَ أهمِّيَّةٍ دينيَّةٍ مُحدَّدَةٍ جِدَّاً ولم تكتسِبُ أهَمِّيَّةً مُعْتَبَرَةً إلا في العصورِ الحديثَةِ وحينَ حُدُوثُ شيئين بدَّلا دورَهَا أوَّلَهُمَا أنَّهُ مع تصاعُدِ مَدِّ الحركةِ الصُّهيُونِيَّةِ، في تسعيناتِ القرنِ التَّاسع عشر الماضِي، رُفِّعَت مكانَةُ عطلة الشَّانُوكاه لأنَّهَا غَدَتْ تحتفِلُ بالإخضاعِ اليهُودِي للقُدسْ. ومثل رهبان بُوذِيَّة الزَّينZen Buddhism عرفَ الصُّهيُونِيُّون كيف يستغِلُّونَ الدِّيْنَ في سعيهم لامتِلاكِ القُوَّةِ السِّياسِيَّة ومن ثَمَّ غَدت عطلة الشَّانُوكاه، اليومَ، في إسرائيل، فعليَّاً، عُطلةً سِيَاسِيَّةْ.
استمرَّت شهرةُ عطلة الشَّانُوكاه في التَّنامي وذلكَ رُغم أنَّها لم تُعتَبر، حتَّى الآن، عُطْلَةٌ دينيَّة. وقد وُسِمَتْ تلكَ العُطلةُ بأهمِّيَّةٍ جديدةٍ في العهُودِ الحديثَةِ من قِبَلِ تُجَّارِ التَّجزئَةِ الطَّامحينَ في بيعِ سِلَعٍ لليهُودِ صالحةً لأن تُهْدَىْ في موسم الكريسماس. إنَّ الفترةَ التقليدِيَّةَ من العامِ لتقديمِ الهدايا إلى الأطفال قد كانت، بحسبِ التَّقويمِ اليهُودِيِّ الكلاسيكِيِّ، هي فترة ما يُسَمَّىْ، عِنْدَ اليهُودِ، الـ"بيُوريم Purim" والتي تقع عِنْدَ نِهايَةِ الشِّتَاءْ. وفيما لا يُحتَفَلُ فيهَا بأيِّ نصرٍ عسكريٍّ كانت عطلة الـ"بيُوريم Purim" تُدْمَىْ، كما يُحكَى في بعضِ التُّراثِ اليَهُودِيِّ عنها، بِشَنْقِ "هامان الخبيث" ومن يُوالُونَهُ عِنْدَ بَوَّابَاتِ المدينةِ وذبحِ 75,000 فارسِيَّاً. وقد ناقشت قُرُونٌ من التَّعليقاتِ الفَظَاعَةَ البَالِغَةَ لتِلْكَ الحكايَةْ. على كُلٍّ، فيما تَتَّسِمُ معظمُ العُطلاتِ بالرَّزَانَةِ في احتفالاتِهَا تَتَّسِمُ عطلة الـ"بيُوريم Purim" بأنَّهَا وقتٌ للاحتفالاتِ العابثة الطَّائِشَة فتُشْبِهُ، بذلكَ، إلى حدٍّ ما، احتفالات الـ"ماردي قراس Mardi Gras" الكاثوليكيَّة التي تُجرَىْ في فترةِ ما قبل الرَّبيع ويُشَجَّعُ فيها الشُّرْبُ والقَصْفُ واللَّهْوُ والتَّنَدُّرُ على الشَّخصيَّاتِ العِلْمِيَّةِ المُبَجَّلَةْ. وتُعادُ، في احتفالاتِ الـ"بيوريمَ" تِلْكَ، روايَةَ قِصَّةِ "كتابِ إيْثَرْ The Book of Esther" الإنجِيلِيِّ على صُورَةٍ هزلِيَّةٍ مُتَعَمَّدَةٍ فتَغْدُو، بذلِكَ، ميلودرامَا مُضَخَّمَةً يُجازَىْ من يَتَِّصِفُونَ بالطِّيْبَةِ فيها بصيحاتٍ استحسانٍ ضاجَّةٍ وهزليَّةٍ فيما يُجازَىْ من يُوصَمُونَ بالشَّرِّ فيها بصيحاتِ استِنكارٍ، ضاجَّةٍ وهزليَّةٍ، كذلكْ. ويُفْتِيْ عُلَمَاءُ الدِّينِ والحاخَامَاتُ هُنَا بأنَّ "اللَّهَ ليسَ حاضِرَاً" في حكايَةِ احتفالاتِ الـ"بيُوريم Purim". فضلاً عن ذلكَ يُشِكُّلُ "كتابِ إيْثَرْ The Book of Esther" الكتابَ الوحيدَ في "العهدِ القديم The Old Testament"، باستثناءِ قصيدةِ الحُبِّ المُسَمَّاةَ "نشيد الإنشاد"، الذي لا يظهرُ فيه اللهُ أبدَاً. وشخصِيَّاتُ ذاكَ الكِتابِ لا تُصَلِّيْ ولا تسألُ الله عَوْنَاً فاللهُ ليس له شأنٌ بوقائعِهِ الدَّاميةِ، سيَّمَا وأنَّهُ لا يحبُّ أن يقتُلَ النَّاسُ بعضَهُم البعضْ. على كٌلٍّ تستنكِرُ احتفالاتُ العُطلاتِ اليهُودِيَّةِ، عِمُومَاً، مثلَ ذاكَ العُنْفْ. وفي يومِ عُطلَةِ الـ"يُوم كيبُور Yom Kippur" اليَهُودِيَّة يُعَدُّ العُنْفُ أحدَ الخطايا التي تستدعِيْ استغفاراً وتوبَةً. وفي احتفالاتِ عيد الفُصحِ Passover اليَهُودِي، الذي يُحْتَفَىْ فيهِ بقيادَةِ موسَىْ للعبرانِيِّين إلى خارجِ العُبُودِيَّةِ بمِصر، هُنَالِكَ لَحظَةُ أَسَىً على المِصرِيِّين الذين كانٌُوا أعداءً لموسى والذين غَرِقُوا آنَ ما كانُوا هم يُحاولُونَ مطاردةَ العِبرانيِّين عبرَ البحرِ الأحمَرْ. ويُوْصَىْ اليَهُودُ، في كُلِّ عامٍ، بألا يكرهُوا المِصرِيِّين لذاكَ السَّبب، سَيَّمَا وأنَّ من أركانِ الدِّيانَةِ اليهُودِيَّةِ ألا يكره الإنسانُ أعداءَهُ.
إنَّ الدِّيَانَةَ اليَهُودِيَّةَ، أيضَاً، لها تعاليمٌ بشأنِ إمكانِ الكَمَالِ إذ هي تُؤمِنُ بأنَّ هُنَالِكَ يومٌ يجيءُ فيه الكائنُ الإنسانِيُّ الكامِلُ، المسيح، ويُظْهِرُ للجِّنْسِ البَشَرِيِّ السَّبِيْلَ إلى الكمالْ. عليهِ قد أوصَىْ التَّقليدُ الدِّيْنِيُّ بالعودةِ إلى أرضِ إسرائيل فقطْ عِنْدَ ظُهُورِ المسيح وليس في عَهْدِ ما بعدِ الحربِ العالميَّةِ الثَّانِيَة. واليهُوديَّةُ الإصلاحيَّةُ لا تُؤْذِنُ بِظُهُورِ مسيحٍ وإنَّمَا هِيَ تُؤْذِنُ بِطُلُوعِ عَهْدٍ مسيحِيٍّ كامِلٍ وغَيْرِ مُنْقَسِمْ. وبِحَسْبِ النَّبِيِّ الغَاضِبِ إِشْعَيَاه Isaiah سَتَقُمْ الأُمَمُ، في المُستَقْبَلِ، وحِيْنَ يُصْغَىْ، في غَايَةِ الأَمْرِ، إلى كلامِ اللهِ، بـ"طَرْقِ سِيُوفِهَا طَرْقَاً حتَّى تتبدَّلُ السِّنَانَ مَحَارِيْثَاً، وبِطَرْقِ حِرَابِهَا طَرْقَاً حتَّى تَغْدُو مَنَاجِلَ تَشْذِيْبٍ، ثُمَّ إنَّ الأُمَّةَ لَنْ تَرْفَعَ، آَنَذَاكَ، سَيْفَاً ضِدَّ أُمَّةً أُخْرَىْ، كما وهِيَ لَنْ تُدَرَّبَ ثانِيَةً، أَبَدَاً، على الحَرْبْ".
*** رُغمَ أنَّ معظَمَ الأديان تنفُرُ من الاقتِتَالِ وتدعُو إلى اتِّبَاعِ سبيلِ اللاعُنفِ باعتبارِهِ السَّبِيْلُ الأخلاقِيُّ الوحيدُ لإحداثِ التَّغييرِ السِّياسِيِّ استُعِيْنَ، مع ذَلِكَ، بالأديانِ ولُغتِهَا من قِبَلِ الأُناسِ العنيفين الذين كانُوا يحكُمُونَ مُختلف المجتمعاتْ. ولئِنْ كانَ قد عَنَّ لأحدٍ خاطِرٌ أو فِكرَةٌ فأتَىْ، بفِعلِ ذاكَ الخاطِرِ أو الفِكْرَةِ، وأَبَىْ مُسَاوَمَةَ أولئِكَ الأُناسِ ومِن ثَمَّ غَدَا مُتَمَرِّدَاً مُصَمِّمَاً على اتِّبَاعِ السَّبِيْلِ الأخلاقِيِّ الوحيدِ ورافِضَاً، لِذَلِكَ، وبِذَِلِكَ، العُنْفَ بِكُلِّ ضُرُوبِهِ سَيَبْدُو ذلكَ الإنسانُ شَدِيْدَ الخَطَرِ إلى حدٍّ قد يُودِيْ بهِ إلى القَتْلِ، ثُمَّ هُوَ قد يُعْتَمَدُ، دِيْنِيَّاً واجتماعيَّاً، من بعدِ مقْتَلِهِ، قِدِّيْسَاً، أو حتَّى يُؤَلَّهُ، وذلِكُمْ لأنَّ كَونَ الإنسانِ قِدِّيْسَاً يجعلُهُ أقَلَّ خَطَرَاً مُبَاشِرَاً من كونِهِ مُتَمَرِّدَاً. ذَلِكُم قد حدثَ مِرَارَاً في التَّاريخِ البَشَرِيِّ، غيرَ أنَّ المِثَالَ الأَوَّلَ الذي كان بارِزَاً على ذاكَ السَّبِيْلِ هُوَ مِثَالُ يَهُودِيٍّ اسمُهُ عيسَىْ.
[تمَّت التَّرجَمَةُ في 1 سبتمبر، 2016م].
* الفصلُ الأوَّلُ من الكِتَابِ المُسَمَّىْ "اللاعُنف: تاريخُ فِكْرَةٍ خَطِرَةْ"، لمُؤَلِّفِهِ مارك كورلانسكِيْ، مع مٌفْتَتَحِ بقَلَمِ قداسَةِ الدَّلاي لامَا- الزَّعيمُ الرُّوحِيُّ البُوذِيُّ بإقليم التِّيبيت، جوناثان كيبْ، لندن، 2006م: Kurlansky, Mark, Non-Violence: The History of a Dangerous Idea, with a Foreword by His Holiness the Dalai Lama, Jonathan Cape, London, 2006.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة