زعمت اليهودية العالمية والدول الغربية أن اليهود جماعة مشرَّدة، مضطَّهدة، معذَّبة ومغلوبة على أمرها، وأن «إسرائيل» دولة صغيرة ومحبة للسلام وتعمل من أجله، وإن العرب جماعة معتدية، كثيرة العدة والعدد، ويحيطون بـ «إسرائيل» من جميع الجهات ويعملون على تدميرها وإلقاء سكانها في البحر. ونجحت بإقناع المسؤولين والرأي العام في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية بهذه الصورة الكاذبة والمضللة. وساعدتها هذه الأكذوبة على القيام بحرب حزيران العدوانية عام 1967 وعلى اختراع أكذوبة أكبر منها وهي أن مصر هاجمت «إسرائيل» الصغيرة والمحبة للسلام. واستغلت نتائج حربها العدوانية منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم. واستمرت في تضليل الرأي العام العالمي والعديد من حكومات العالم فصوّرتْ قدرتها على تحقيق المعجزات بسبب تفوق اليهود العنصري وذكائهم. «فإسرائيل» البلد الصغير والوديع والمسالم الذي يبلغ عدد سكانه أقل من ثلاثة ملايين انتصر على أكثر من مئة مليون عربي، مزودين بأحدث أنواع الأسلحة للقضاء عليها. فكيف تكوَّن الجيش الإسرائيلي، وهل كان من الجيوش الصغيرة التي تفتقر إلى العدة والعدد والتدريب والخبرة؟ تكوَّن الجيش الإسرائيلي من عدة منظمات يهودية إرهابية مسلحة وبمساعدة الجيش البريطاني والولايات المتحدة، واليهودية العالمية والمنظمات الصهيونية وأموال التعويضات الألمانية وهدايا الأسلحة التشيكية والألمانية، ومن هذه المنظمات: منظمة الحرس اليهودي (هاشومير): أرجع الجنرال يغال ألون، وزير خارجية «إسرائيل» الأسبق في كتابه «بناء جيش إسرائيل» بذور تكوين الجيش الإسرائيلي إلى عام 1870، عندما بدأ المهاجرون اليهود بتأسيس مستعمرات لهم في فلسطين تولت مسؤولية الدفاع عن نفسها، ووضعت نظاماً خاصاً للحراسة الليلية في كل مستعمرة. واعتبر الجنرال ألون منظمة الحرس اليهودي «هاشومير» جنين التنظيم العسكري اليهودي. وأخذت هاشومير تزداد قوة على أثر وصول أعداد كبيرة من المهاجرين من روسيا بعد عام 1905. وأقاموا مستعمرات يهودية في مناطق استراتيجية معينة لخدمة أهداف عسكرية قادمة. وفرضت على أعضائها العمل في الزراعة والشؤون العسكرية. الفرقة اليهودية في الحرب العالمية الأولى جاء الإرهابي جابوتنسكي من أوديسيا في أوكرانيا وترمبلدور من شمال القوقاز. واتفق الاثنان على إنشاء قوة يهودية خاصة تقاتل في صفوف الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، بهدف تدعيم فكرة إنشاء وطن لليهود في فلسطين العربية. والتقيا في 14 آذار 1915 بالجنرال البريطاني ماكسويل في القاهرة لتأسيس فرقة يهودية بقيادة بريطانية تحارب بجانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. وعندما اندلعت الثورة البلشفية في روسيا عاد ترمبلدور إلى روسيا على أمل بيع فكرته للسوفييت، حيث كتب عن ذلك يقول: «من الممكن أن نحصل، خلال شهر على الموافقة وأن نعود إلى الجبهة تحت علمين: العلم الأحمر، علم الثورة الروسية، والعلم الأزرق والأبيض، علم الانبعاث اليهودي(1)». ونجح في كانون أول عام 1917 في إنشاء أول وحدة يهودية بهدف الدفاع الذاتي اليهودي. وأبحر في آب 1919 إلى يالطا ومنها إلى فلسطين «ليقتل على يد العرب في تل حاي في شمالي الجليل، يوم 29 شباط 1920(2)». ولكن قبل وفاته عرضت قيادة الجيش البريطاني في مصر استجابة إلى طلب ترمبلدور وجابوتنسكي إنشاء فرقة من المتطوعين اليهود لتأمين النقل إلى الدردنيل. «عارض جابوتنسكي الفكرة، لأن ما كان يريده، هو تشكيل فرقة مدفعية تتوجه مباشرة إلى فلسطين لتقاتل الإمبراطورية العثمانية، في حين انتهى جوزيف ترمبلدور إلى الموافقة، وذلك لاعتقاده بأن المهم هو تحقيق الاعتراف بمشاركة اليهود، بصفتهم يهوداً، في صفوف القوات الحليفة(3)». وشارك في تشكيل فرقة للنقل باسم فرقة البغالة اليهود، لنقل البضائع والمعدات من الخطوط الخلفية إلى الجبهة على ظهور البغال، ودامت من 27 نيسان إلى 28 كانون الأول عام 1915. التحق معظم اليهود الذين كانوا في وحدة البغالة بعد حلها بفرقة القناصة الملكية البريطانية الثامنة والثلاثين، والتي خدم في صفوفها دافيد بن غوريون (أول رئيس وزراء في إسرائيل) واسحق بن تسفي، ثاني رئيس لدولة إسرائيل، بينما كان جوزيف دوري (أول قائد للجيش الإسرائيلي) في فرقة القناصة الأربعين. بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى حلت بريطانيا الفيلق اليهودي عام 1919، ولكن جابوتنسكي اتخذ قراراً بتجميع وتخزين السلاح وتنظيم مليشيا يهودية مسلحة في فلسطين ونظم استعراضاً عسكرياً لأتباعه أمام مقر القيادة البريطانية وفي شوارع القدس لاستفزاز شعور العرب. واعتدى الإرهابيون اليهود في أول عيد للفصح جاء بعد الاستعراض العسكري على المتظاهرين العرب بالقنابل والبنادق، مما أدى إلى وقوع أربعة شهداء وخمسة وعشرين جريحاً في صفوف العرب. حكمت محكمة عسكرية بريطانية على جابوتنسكي بالسجن لمدة تسعة عشرة سنة، ولكن المندوب السامي البريطاني اليهودي هربرت صموئيل استجاب لضغط المنظمات اليهودية وأفرج عنه بعد ثلاثة أشهر. أفادت وحدة البغالة، وفرقة القناصة الملكية والفيلق اليهودي في الجيش البريطاني إبان الحرب العالمية الأولى «الحركة الصهيونية» في فلسطين بالخبرات العسكرية وبالتسلل إلى وزارة الحرب البريطانية ووزارتي الخارجية في روسيا وفرنسا. منظمة الهاغاناه قرر الصهاينة في فلسطين عام 1920 تأسيس ميليشيا شبه سرية، باسم الهاغاناه، وذلك بعد الاحتلال البريطاني لفلسطين وفرض الانتداب عليها، والتزام بريطانيا، الدولة المنتدبة في دستور الانتداب بتحقيق وعد بلفور وفتح أبواب فلسطين للهجرة اليهودية. في تلك الفترة قرر الصهاينة تطوير منظمة هاشومير من فكرة الطليعة المسلحة إلى فكرة المجتمع العسكري، ولذلك جاء تأسيس منظمة الهاغاناه. تلقت الهاغاناه الدعم والتأييد الكاملين من حكومة الانتداب، وأخذت تنمو وتكبر وتقوى باستمرار بفضل الهجرة اليهودية المتواصلة وبفضل دعم حكومة الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية العالمية. وركَّزتْ الحركة الصهيونية على عسكرة المستعمرين اليهود وازدادوا قوة وتماسكاً بمجيء موجات الهجرة من ألمانيا النازية والذين نجحوا لأول مرة في بلورة مجتمع يهودي وإقامة صناعة لإنتاج الأسلحة والذخائر. زادت الحركة الصهيونية من التركيز على عسكرة المجتمع اليهودي في فلسطين، وساعدها بذلك الهجرة اليهودية المختارة والمتزايدة، ومساعدة ودعم حكومة الانتداب البريطاني، والأموال التي كانت تتدفق عليها من المنظمات الصهيونية العالمية. وأقامت المستعمرات اليهودية في فلسطين لتأدية مهمات عسكرية واقتصادية، وقامت الهاغاناه بتولي الدفاع عنها ومهاجمة العرب والانتقام منهم. وعملت الصهيونية على عسكرة المجتمع اليهودي داخل كل مستعمرة. وأصبحت المستعمرات بمثابة مخافر أمامية للعدو الصهيوني، وهي بمثابة جرس الإنذار وتدعمها قوات الهاغاناه المتمركزة فيها أو القريبة منها. وأكد الجنرال يغال ألون على الدور العسكري للمستعمرات اليهودية في كتابه «بناء جيش إسرائيل» وقال: «كان من الواجب أن تتحول كل مستعمرة يهودية إلى قلعة هاغاناه، وأن يصاحب التخطيط الاقتصادي والزراعي تخطيطات وترتيبات عسكرية. لقد كان على ميزانية الهجرة أن تهتم بالسيف والمحراث في الوقت ذاته(4)». بلغت الهاغاناه ذروة تطورها عندما اشتد نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال البريطاني ومن أجل الاستقلال وجلاء القوات الأجنبية ووقف الهجرة اليهودية، وذلك باندلاع ثورة عز الدين القسام ثورة 1935 والإضراب العام والشامل الذي دام ستة أشهر. وفي هذا العام بالذات اعترفت حكومة الانتداب البريطاني بعصابة الهاغاناه كمنظمة للدفاع عن المستعمرات اليهودية ومواجهة نضال الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار والصهيونية. وأكد الجنرال ألون دعم بريطانيا للهاغاناه وذكر في كتابه المذكور أنها قامت في الفترة الواقعة ما بين 1936 ـ 1939 بمبادرتين لعبتا دوراً كبيراً في تطوير الهاغاناه: الأولى: تبلورت بتأسيس شرطة الاستيطان اليهودي، والثانية: بتأسيس وحدات يهودية ـــــ بريطانية مشتركة عرفت «بشراذم الليل الخاصة»، أسسها وقادها ضابط الاستخبارات البريطاني وينجيت. ولعبت هذه الشراذم دوراً قذراً في محاربة ثورة عز الدين القسام وإرهاب عرب فلسطين. وعندما أصبح وينجيت ضابطاً في القيادة العامة للمخابرات البريطانية في القدس كتب إلى حاييم وايزمان، زعيم المنظمة الصهيونية العالمية يقول: «عليكم أن تتذكروا آرائي المتعلقة بالدور الذي يستطيع اليهود أن يؤدوه في حرب عالمية مقبلة. ولتحقيق هذا الغرض يجب خلق قوة يهودية للدفاع وتنظيمها بطريقة خاصة. نحن نريد تقديم خدماتنا إليكم بصفتكم رئيس الحركة الصهيونية(5)». وافقت الحركة الصهيونية وعصابة الهاغاناه على الاستفادة من خدمات وينجيت، وبدأ يدرب سكان المستعمرات اليهودية على استعمال السلاح وعلى أساليب القتال للدفاع عن المستعمرات من الداخل. وجعلها تنتقل إلى مهاجمة العرب على مقربة من قراهم وأحياناً داخلها. ويعتبر العديد من المختصين بالقضية الفلسطينية أن شارل أورد وينجيت هو المؤسس الحقيقي للجيش الإسرائيلي. وكانت شراذم القتال الليلية تعمل ضد المراكز العربية. وكانت حكومة الانتداب تزعم أن الهدف منها هو حماية أنبوب نفط كركوك ـــــ حيفا. واستخدمت بريطانيا بعض فرق الكوماندوس من الهاغاناه في مهمات تسلل وتخريب ضد المواقع الفرنسية ـ الفيشية في سورية «في إحدى عمليات التسلل هذه فقد موشيه ديان عينه، بينما كان يقود فرقة من اليهود ذوي الشعر الأشقر الذين يتحدثون الألمانية بطلاقة». وعملت الهاغاناه كطابور خامس للجيش البريطاني في المنطقة العربية. وكانت الهاغاناه بين عامي 1944 ـــــ 1945 تضم (60) ألف عنصر، مقسمين إلى ثلاث وحدات رئيسية، قوة ثابتة مؤلفة من (40) ألف مستوطن، قوة هجوم مؤلفة من (16) ألف مقاتل مدربين على عمليات متحركة، وستة آلاف عنصر من البالماخ(6). ارتكبت الهاغاناه العديد من الجرائم الوحشية في فلسطين وحتى بحق اليهود في بعض الأحيان، حيث قرر بن غوريون نسف سفينة باتريا في ميناء حيفا وعلى ظهرها خمسة آلاف مهاجر يهودي لأن حكومة الانتداب البريطاني رفضت السماح لهم بالنزول إلى حيفا. ووصل عدد القتلى اليهود جراء تفجير الهاغاناه للسفينة (275) معظمهم من الأطفال والنساء. واتهم اليهود حكومة الانتداب البريطاني بالجريمة الهمجية كعادة اليهود بالكذب والتضليل والخداع وارتكاب الجرائم الدموية الوحشية عصابة الأرغون تأسست عصابة الأرغون، أي المنظمة العسكرية القومية، أرغون زفاي لئومي، أو أيتسل باختصار عام 1937. وقامت استراتيجية الأرغون على استخدام العنف والإرهاب ضد العرب، لأن العنف وحده هو القادر على فرض الاحترام والرعب على السكان الأصليين، لذلك كان شعارها خارطة فلسطين وشرق الأردن وعليها بندقية، ونادت بضرورة الإسراع في الهجرة والاعتماد على وحدات عسكرية يهودية وعلى القوة المسلحة لتحقيق الأهداف الصهيونية وترحيل العرب وتزعمها الإرهابي جابوتنسكي. وكانت هناك منظمة أكثر سرية في قلب الأرغون تسمى «فريق الوسط»، وهي المكلفة بالعمليات الخاصة، تصفية المعارضين اليهود والعمليات الإرهابية ضد العرب، وكان شلومو بن يوسف أول عنصر من عناصر البيتار تم شنقه من قبل حكومة الانتداب في 8 حزيران 1938 لتفجيره حافلة عربية. وقتلت عصابة الأرغون في شهر تموز عام 1938 أكثر من (120) عربياً. ولقد ساعد دافيد راتسيل، أول قائد عسكري للأرغون جابوتنسكي على تحقيق أفكاره الإرهابية وتنفيذ خططه التخريبية. وكان أول من قاد هجوماً كبيراً ضد العرب في 14 تشرين الثاني عام 1937 عرف بالأحد الأسود، حيث قام بقتل ستة رجال عرب وامرأتين ووسط مدينة القدس. ووصفه السفاح بيغن قائلاً: «إنني أعتبر راتسيل أكبر مفكر عسكري يهودي في جيلنا، هو الذي نفذ العمل الحاسم: أول هجوم مسلح يقوم به اليهود(7)». أما شعارات راتسيل فكانت: «يجب خلق وضع تصبح فيه حياة العرب لا تساوي أكثر من حياة فأر. هكذا يفهم الجميع أن العرب، هم من الغائط، وإننا نحن، وليس هم أسياد البلاد الحقيقيين». شرحتْ عصابة الأرغون في تعميم أصدرته في شهر آب 1939 العوامل التي أدت إلى قيامها جاء فيه: «1 ـــ إن غزو بلد واستقلال أُمة مظلومة لا يتوج أبداً بالنجاح إلا حين تدعمه قوة عسكرية. 2 ـــ إن حوادث (انتفاضات) 1920 ـ 1921 و1929 أثبتت بالتأكيد نية العرب في استعمال العنف المسلح لمقاومة إنشاء دولة يهودية. 3 ـــ لا يمكن الاعتماد على قوة الانتداب لقهر العنف العربي. 4 ـــ ستكون فلسطين في حالة الحرب نقطة استراتيجية ذات أهمية بالغة للديمقراطية الغربية، وإنه بالاحتفاظ بقوة مسلحة للدفاع عن فلسطين سيكون في مقدورنا أن نحتل مركزاً يجعل بريطانيا تقبل بإيجاد دولة يهودية(8)». وكانت سياسة الأرغون الخارجية في عهد جابوتنسكي تقوم على أساس «أن الصهيونية تشكل مفتاحاً لحل المشاكل البريطانية في الشرق الأوسط، وإن إنشاء دولة يهودية في فلسطين من شأنه أن يقيم جزيرة صديقة لبريطانيا في بحر إسلامي متحفِّز لطردها من المنطقة(9)». حدث تحوّل لدى الإرهابي جابوتنسكي تجاه الموقف من ألمانيا ففي بادئ الأمر تبنى موقفاً شكلياً من مقاطعة ألمانيا النازية، بينما كان المراجعون الجدد يعارضونها، ولكنه ما لبث أن تبنى توجهات جديدة معادية لألمانيا النازية. وأدى هذا الموقف الجديد إلى معارضته تفاوض الحركة الصهيونية معها وإلى اغتيال حاييم أرلوزوروف، رئيس الدائرة السياسية في الوكالة اليهودية بفلسطين بسبب توقيع اتفاقية للتعاون بين ألمانيا النازية والحركة الصهيونية لتهجير يهود ألمانيا فقط إلى فلسطين. ولم تتركز العمليات الإرهابية للأرغون على اغتيال اليهود لتعاونهم مع النازية، بل امتدت وشملت العرب ورجال الشرطة البريطانيين، واللورد موين، المندوب السامي البريطاني في مصر. أوقفت عصابة الأرغون عملياتها الإرهابية ضد البريطانيين وعرضت المشاركة في عمليات ضد الألمان. وتولى السفاح مناحيم بيغن زعامة الأرغون بعد يعقوب راتسيل في كانون أول 1943. واصطدمت عصابة الأرغون مع الجيش البريطاني حيث أعلن بيغن في أول شباط 1944 انتهاء الهدنة مع البريطانيين الذين لم يؤمّنوا استقبال سفن اللاجئين اليهود قائلاً: «الحرب على السلطات البريطانية، الحرب حتى النهاية، وسيكون إله إسرائيل إله الجيوش معنا، لا تراجع: الحرية أو الموت، ولنعلن الحرب على بريطانيا التي لم تأخذ باعتبارها لا تضحياتنا ولا وفاءنا(10)». وقررت عصابة الأرغون تدمير هيبة الإمبراطورية البريطانية في فلسطين، حيث كتب مناحيم بيغن يقول: «إن التاريخ وملاحظاتنا الخاصة يقنعاننا بأننا إذا ما توصلنا إلى تدمير الهيبة البريطانية في أرض إسرائيل (فلسطين)، فإن نهاية الهيمنة ستأتي بشكل آلي. لذلك فإن جميع عملياتنا الهجومية، حتى تلك التي فشلت، كانت مثمرة على الصعيد السياسي لأنه كان لها دائماً تأثير على الهيبة البريطانية». وكان زعيم العصابة الإرهابية بيغن يقول: «أنا أحارب، إذن أنا موجود». وكانت العصابة تهتم بحماية كرامة وأرواح أعضائها إلى أقصى الحدود، فعندما أصدرت محكمة بريطانية حكماً بجلد أحد أفراد العصابة 18 جلدة أصدرت إنذاراً جاء فيه: «حكمت محكمة عسكرية بريطانية غير شرعية على جندي عبري أسره العدو بعقاب الجلد المهين. ننذر حكومة الاحتلال بألا تنفذ هذه العقوبة المنافية لقوانين شرف الجندية، ولئن نفذتها فإن كل ضابط في جيش الاحتلال البريطاني في أرض إسرائيل (فلسطين) سيكون عرضة للعقاب بنفس الأسلوب(11)». وعندما نفذت المحكمة البريطانية حكمها، قامت العصابة باختطاف بعض الضباط البريطانيين وجلدت كلاً منهم 18 جلدة. وعندما نفذت حكومة الانتداب الإعدام بحق ثلاثة من أفراد العصابة، قامت عصابة الأرغون في اليوم التالي بخطف ضابطين بريطانيين ونفذت بهما حكم الإعدام. وعلى أثر تأسيس الجيش الإسرائيلي انضمت عصابة الأرغون الإرهابية بمقاتليها وأسلحتها إليه. وتولى الجيش الإسرائيلي مسؤولية القيام بالمجازر الجماعية والاغتيالات وتدمير المنجزات، وحرق وقتل المدنيين العرب بالنايالم والقنابل الفسفورية والانشطارية نيابة عن المنظمات اليهودية الإرهابية المسلحة. عصابة شتيرن على أثر قرار عصابة الأرغون بوقف أعمالها الإرهابية في فلسطين إبان الحرب العالمية الثانية، انشق إبراهام شتيرن مع جماعة أخرى عن عصابة الأرغون وأسسوا عصابة إرهابية جديدة في حزيران 1940 عرفت باسم «لخماي حيروت إسراييل»، أي المحاربون من أجل حرية إسرائيل. وعرفت باسم ليحيي، أي الأحرف الأولى من العبارة السابقة، واشتهرت فيما بعد باسم عصابة شتيرن، نسبة إلى أبراهام شتيرن الذي كان من مؤسسي عصابة الأرغون ومساعداً لقائدها العسكري. وتؤمن بالعنف والإرهاب، ولكنها أشد تطرفاً من عصابة الأرغون. وآمن زعيم العصابة الإرهابية إبرهام شتيرن بالآراء الفاشية، لأنه قد تأثر بها خلال دراسته في إيطاليا في عهد موسوليني، وكان من أكثر المعجبين به وبآرائه الفاشية، وبلغ عدد أعضائها حوالي الألفين. قادت شتيرن بعد مقتل إبراهام شتيرن على أيدي القوات البريطانية قيادة ثلاثية تألفت من: إسرائيل شهيب، نتان مور، واسحق شامير الذي أصبح رئيساً لوزراء «إسرائيل» فيما بعد. استمرت العلاقات بين عصابة الأرغون (الأم) وعصابة شتيرن، وكان بيغن يطلق على عصابة شتيرن تسمية «أصدقاؤنا في الثورة». وعندما أصبح رئيساً للوزراء أمر بإصدار طابع بريدي في ذكرى ابراهام شتيرن. ازدادت الخلافات بين شتيرن والأرغون إبان الحرب العالمية الثانية حول الموقف من القوى المتحاربة، وطرحت عصابة شتيرن الوقوف إلى جانب ألمانيا النازية للتخلص من الانتداب البريطاني ومن ثم إقامة الدولة اليهودية. وبررت لنفسها حسب قول زعيمها شتيرن التعاون مع ألمانيا النازية «بالاستعانة بالجزار الذي شاءت الظروف أن يكون عدواً لعدونا(12)». واعتبرت أن الانضمام للجيش البريطاني يُعدُّ جريمة وسعت للاتفاق والتعاون مع ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، ووصل نشاطها الإرهابي ذروته باغتيال اللورد موين بطرد متفجر في القاهرة في تشرين الثاني عام 1944. وأظهرت المبادئ التي كانت تؤمن بها مدى خطورة الأفكار والمواقف التي تبنتها فهي تؤمن أن الأرض العربية من النيل إلى الفرات هي حدود «أرض إسرائيل» والتي سوف يتم جمع الشتات اليهودي فيها وترحيل العرب منها. ونفذت عملية نسف فندق الملك داوود، مقر حكومة الانتداب البريطاني عام 1946 ومجزرة دير ياسين الرهيبة بالاشتراك مع عصابة الأرغون وبمباركة عصابة الهاغاناه. الفرقة اليهودية في الجيش البريطاني بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية اعتقد بعض زعماء الحركة الصهيونية أن اليهود في فلسطين سيواجهون عدوين، الألمان والعرب، لذلك رأوا ضرورة تعميق وتطوير التعاون مع بريطانيا. واختلفوا فيما بينهم على كيفية التعاون معها ومساعدتها. فرأى بعضهم أن يدخل اليهود في الجيش البريطاني، ورأى البعض الآخر أن يشتركوا في قوات الهاغاناه، ولكن بن غوريون أيد اشتراك اليهود في الجيش البريطاني وفي عصابة الهاغاناه. وبالتالي تعود جذور تشكيل الفرقة اليهودية في الحرب العالمية الثانية إلى عام 1939، لأن القادة الصهاينة في هذا العام قرروا أن بإمكانهم استغلال الحرب لتحقيق الحلم الصهيوني في فلسطين العربية عن طريق مساعدة الحلفاء وبالتحديد بريطانيا والولايات المتحدة الأميركية «وقد تطوع في العام نفسه عدداً كبيراً من المستوطنين اليهود في فلسطين للقتال ضد دول المحور(13)». ركّز حاييم وايزمان مساعيه لدى بريطانيا في لندن، في حين ركز موشي شرتوك جهوده في القدس، لدى حكومة الانتداب في فلسطين لإقناع بريطانيا بفكرة تكوين قوة مسلحة يهودية. وعلى أثر الاجتماع الذي تم بين وايزمان واللورد لويد وانتوني ايدن في منتصف عام 1940، وافقت الحكومة البريطانية على تدريب وتسليح وتنظيم يهود فلسطين وقال لهما وايزمان في هذا الاجتماع: «من الممكن أن تنقطع فلسطين نهائياً عن أوروبا، وقد تحدث ثورة عربية في الشرق الأوسط وليس في فلسطين، بل في العراق ومصر، وإذا حدث مثل ذلك، فإن اليهود والبريطانيين سيقعون في مأزق واحد، وعند ذلك ستحارب إلى جانبكم حتى النهاية، ولهذا السبب يجب أن يكون السلاح لدى اليهود(14)». وهكذا نرى من حديث وايزمان أن الاستراتيجية الصهيونية كانت منسجمة تماماً مع الاستراتيجية البريطانية في المنطقة العربية، بل كانت على أتم الاستعداد للقيام بالدور الذي يجب أن يقوم به الاستعمار البريطاني لقمع الثورات العربية المعادية لبريطانيا. وكشف وايزمان الوجه القبيح للصهيونية عندما أكد هذه الحقيقة وقال: «كان هناك تماثل مصالح تام تقريباً بين الصهيونية وبريطانيا في فلسطين(15)». ويمكن القول أن زعماء الحركة الصهيونية نفذوا وصية المؤسس الصهيوني ماكس نورداو الذي أعلن في لندن بحضور دهاقنة الاستعمار البريطاني قائلاً: «نحن نعرف ما تتوقعونه منا، يجب أن نكون حرس قناة السويس، ونحن على استعداد لأن نقوم بهذه الخدمة العسكرية الصعبة، ولكن من الضروري أن تسمحوا لنا بأن نصبح قوة لنقوم بهذه المهمة(16)». ونظراً لانطلاق بريطانيا من مصالحها الاستعمارية ومعاداتها للوحدة العربية وللعروبة والإسلام الأصيل، واستعداد الحركة الصهيونية خدمة المصالح البريطانية، استجابت بريطانيا إلى ما طلبه وايزمان وأسست وحدات يهودية ضاربة (البالماخ) وقدمت لها مختلف أنواع الأسلحة. سمحت الحكومة البريطانية عام 1940 ليهود فلسطين بالانضمام إلى كتيبة كنت الشرقية، ثم تكونت بين عامي 1942 و1943 (15) سرية يهودية في ثلاث كتائب مشاة وشكلوا الوحدة الفلسطينية والتي شاركت بأعمال الحراسة في برقة ومصر. وتابعت الحركة الصهيونية ضغطها على بريطانيا وتبنت منظمة الحاخامية الأميركية قرارات تدعو الرئيس الأميركي روزفلت إقناع بريطانيا بتشكيل الفرقة اليهودية. واقترح مجلس الطوارئ الصهيوني الأميركي تسليح القوة اليهودية بأسلحة أميركية. واستجابت الحكومة البريطانية للضغوط الصهيونية وشكلت الفرقة اليهودية عام 1944 لتقاتل خلال الحرب في صفوف الحلفاء. وقامت بريطانيا بتدريبها في برج العرب قرب الاسكندرية في تشرين أول 1944، وانضمت إلى الجيش البريطاني الثامن في إيطاليا حيث قاتلت ضد قوات المحور. وساهمت في تنظيم هجرة يهود أوروبا إلى فلسطين وفي ملاحقة الضباط الألمان داخل ألمانيا باسم الجيش البريطاني. وارتكبت جريمة حرب نكراء حيث قتلت (15) ألف ضابط ألماني كانت القوات الحليفة قد ألقت القبض عليهم ووضعتهم في معسكر خاص لهم. وجرت هذه الجريمة الكبرى بعد أن قرر بعض قادة الفرقة اليهودية التخلص من الأسرى من ضباط الجيش النازي وطلبوا من وايزمان تزويدهم بالسموم الكافية لقتلهم، ثم وضعوا السم الذي أرسل إليهم من تل أبيب في العجين داخل فرن المعسكر وفي مستودعات المياه، مما أدى إلى وفاتهم جميعاً(17). تصاعدت الخلافات بين المنظمات الإرهابية اليهودية والتي شكلت «حركة المقاومة العبرية» وبريطانيا. وانعكس هذا على موقف الفرقة اليهودية والتي أخذت تنتقد وتهاجم بريطانيا في النشرة التي تصدرها، مما حمل بريطانيا على حل الفرقة اليهودية في صيف عام 1946. واعترف الجنرال يغال ألون بدور الاستعمار البريطاني في تدريب وتسليح اليهود وقال: «بنهاية الحرب العالمية الثانية، كانت هناك أربع كتائب بالماخ حسنة التنظيم والتدريب والطاعة النظامية، مستعدة للعمل وحولها عدد كبير من وحدات الهاغاناه». وأكد بن غوريون دور بريطانيا في دعم تسليح اليهود في فلسطين وقال: «ما كان بوسعنا أن نحصل مطلقاً على وحدات المدفعية التي لدينا الآن لو لم نلبس البزة العسكرية البريطانية، وليس هذا كل شيء، فهل كنا نستطيع أن ندرب العشرين ألف الموجودين في الجيش النظامي ذلك التدريب الذي تلقوه(18)». يمكن القول إن بريطانيا هي التي قامت بتدريب وتسليح الهاغاناه وكتائب البالماخ والقوات اليهودية الأخرى في فلسطين مقابل تقديم اليهود خدمات عديدة للاستعمار البريطاني في ميدان الاستطلاع والجاسوسية وبناء جهاز الاستخبارات البريطاني في البلدان العربية. وكانت بريطانيا في الوقت نفسه تقود العربي الفلسطيني إلى أعواد المشانق إذا وجدت بحوزته أو في منزله فشكة (رصاصة) واحدة.
توحيد المنظمات اليهودية الإرهابية الثلاث في حركة المقاومة العبرية
جرت مفاوضات بين الهاغاناه والأرغون وشتيرن تمخضت عن إنشاء حركة المقاومة العبرية، بحيث احتفظت كل منظمة باستقلاليتها شريطة ألاَّ تقوم بأية عملية مهمة بدون موافقة القيادة العامة المشتركة. ووقع قادتها الثلاث وباشتراك الوكالة اليهودية في عام 1945 اتفاقاً جاء فيه: 1 ـ تدخل منظمة الهاغاناه المعركة العسكرية ضد السلطات البريطانية. وهكذا قامت حركة العصيان العبري. 2 ـ يجب على منظمتي ليحي واتسل (شتيرن والأرغون) عدم تنفيذ خططها القتالية إلا بموافقة قيادة حركة العصيان. 3 ـ تنفِّذ ليحي واتسل الخطط القتالية التي تكلفان بها من قبل قيادة الحركة. 4 ـ يجب ألا يكون النقاش حول العمليات المقترحة شكلياً فيجتمع مندوبو المنظمات الثلاث في جلسات ثابتة أو حسب الحاجة، على أن يتم خلال هذه الجلسات مناقشة الخطط من الناحيتين السياسية والعملية. 5 ـ بعد أخذ الموافقة المبدئية على العمليات المقترحة يناقش خبراء المنظمات الثلاث تفاصيل هذه العمليات. 6 ـ ضرورة الحصول على موافقة قيادة حركة العصيان لتنطبق على العمليات التي يجري تنفيذها ضد الممتلكات مثل الاستيلاء على الأسلحة من أيدي البريطانيين أو الحصول على الأموال. 7 ـ الاتفاق بين المنظمات الثلاث يرتكز على «أمر افعل». 8 ـ إذا أمرت منظمة الهاغاناه في يوم من الأيام بالتخلي عن الحرب ضد البريطانيين تواصل إتسل وليحي حربهما(19). كانت أول العمليات المشتركة والمنسقة تلك التي وقعت في الفترة الواقعة ما بين 13 تشرين الأول وحتى الأول من تشرين الثاني عام 1945 (351) عملية إتلاف للسكك الحديدية والجسور. وعندما قامت عصابة الأرغون بالاشتراك مع عصابة شتيرن في 22 تموز 1946 بنسف مقر حكومة الانتداب البريطاني والمقر العام للقوات المسلحة البريطانية في فندق الملك داوود، وقاد العملية مناحيم بيغن قامت الهاغاناه بإدانة العملية. ولكن عصابة الأرغون أكدت أنها لم تتصرف إلا بموافقة القيادة العامة لحركة المقاومة العبرية. وكان القاسم المشترك بين العصابات اليهودية الإرهابية الثلاث تحقيق الاستعمار الاستيطاني وإبادة أكبر عدد ممكن من الشعب العربي الفلسطيني وترحيله ومصادرة أراضيه وتهويدها. ولكن الخلافات السياسية والموقف من بريطانيا والتنافس على النفوذ والسيطرة على الحركة الصهيونية كانت عوامل أساسية في تصعيد الخلافات واندلاع الاشتباكات المسلحة بين العصابات الإرهابية الثلاث إلى أن شكلت جميعها الجيش الإسرائيلي وأشعلوا حرب عام 1948 وارتكبوا النكبة التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا لإقامة إسرائيل العظمى الاقتصادية من خلال استخدام القوة وإشعال الفتن الطائفية والعرقية لتفتيت البلدان العربية والإسلامية ورسم خريطة سايكس ـ بيكو 2 لتخليد وجود إسرائيل مئة عام من خلال تحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد.
المصادر:
1 ـ إيمانويل راتييه، إرهابيو إسرائيل، عمان 2001، ص34. 2 ـ المصدر السابق، ص36. 3 ـ المصدر السابق، ص37. 4 ـ يغال ألون، بناء جيش إسرائيل، ص7. 5 ـ هيثم الكيلاني، المذهب العسكري الإسرائيلي، دمشق 1969، ص7. 6 ـ إرهابيو إسرائيل، مصدر سابق، ص131. 7 ـ المصدر السابق، ص137. 8 ـ بسام أبو غزالة الجذور الإرهابية لحزب حيروت الإسرائيلي، مركز الأبحاث، منظمة التحرير الفلسطينية، بيروت 1966، ص24. 9 ـ المصدر السابق ص27. 10 ـ إرهابيو إسرائيل، مصدر سابق، ص138. 11 ـ الجذور الإرهابية لحزب حيروت، ص61. 12 ـ عبد الوهاب المسيري، الصهيونية والعنف من بداية الاستيطان إلى انتفاضة الأقصى، دار الشروق ـ القاهرة 2001، ص272. 13 ـ المصدر السابق، ص265. 14 ـ المذهب العسكري الإسرائيلي، مصدر سابق، ص72. 15 ـ مجلة صوت فلسطين، العدد 10، تشرين أول 1971، ص23. 16 ـ جريدة الاتحاد بحيفا في 4/6/1971. 17 ـ شاهدت فيلماً وثائقياً عن هذه الواقعة في إحدى محطات التلفزيون الألمانية عام 1999. 18 ـ المذهب العسكري الإسرائيلي، مصدر سابق، ص71. 19 ـ الصهيونية والعنف من بداية الاستيطان إلى انتفاضة الأقصى، مصدر سابق، ص276.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة