قبل أيام قلائل اندفعت إلى داخل مكتبي مجموعة من الصبية الصغار يلبسون زيّاً مدرسياً مُوحّداً ويحملون على أكتافهم الصغيرة حقائب مدرسية.. لأوّل وهلة حسبتهم في رحلة مدرسية لزيارة "التيار".. لكن المُفاجأة كانت أكبر كثيراً ممّا توقّعت. الصحفيان بـ "التيار" أميرة التجاني وعبد الله الشريف شرحا لي الأمر.. فقد وجدا هؤلاء الصبية.. في شارع المك نمر يقفون في شارات المُرور يتسوّلون السيارات العابرة.. سألتهم عدة أسئلة لأتيقّن من كونهم تلاميذ فعلاً ولا ينتحلون الزي المدرسي للتسوُّل.. إجاباتهم البريئة كانت قاطعة.. حدّدوا اسم المدرسة وموقعها (في أمبدة).. بعثنا في اليوم التالي صحفياً ليتحقّق من المعلومات.. وصل المدرسة والتقى بالمدير وعلم منه أصل الحكاية.. التلاميذ لأُسر فقيرة.. يأتون إلى المدرسة صباحاً كالمُعتاد ويكملون اليوم الدراسي حتى حوالي الساعة الواحدة أو بعدها بقليلٍ ثم ينطلقون بعلم أسرهم إلى شوارع الخرطوم يمدون أيديهم الصغيرة البريئة للناس أعطوهم أو منعوهم. حسب ما قاله لنا الأطفال؛ يظلون في الشارع حتى المغرب ثُمّ يعودون إلى بيوتهم.. لا يتعدى نصيب الفرد منهم (20) جنيهاً فقط.. ربما تُوفِّر بعض طعام لكل الأُسرة. مدير المدرسة - الذي تحدّثت إليه هاتفياً - قال لي إنّ أحد هؤلاء التلاميذ هو من أذكى وأشطر مَن في المدرسة.. وينتظره مُستقبلٌ باهرٌ.. طبعاً إذا واصل تعليمه، وأشُك في ذلك. أول ما خَطَرَ في بالي هو الاتصال بـ "منظمة مجددون"، الفوارس الذين ينشطون لدرجة الإبهار في إطعام تلاميذ المدارس.. وحسب علمي أنّها توفر وجبة إفطار يومياً لما يفوق العشرة آلاف تلميذ.. وأتوقّع أنّ المُنظمة ستغني الطلاب عن هَــمّ الوجبة الصباحية على الأقل إن لم تتكفّل بكامل وجباتهم الثلاث.. بل وأتوقّع أن تتفضّل مُنظّمات خيرية أخرى بدريهمات تقيهم شَر هَدر الوقت في التنقل عبر ثلاث وسائل مُواصلات ذهاباً إلى الخرطوم حيث مسرح التسوُّل، ومثلها للعودة.. وربما تمنح أسرهم ما يكفيها لرعاية هؤلاء الأبرياء بأيسر ما يجعلهم يُواصلون مشوار العلم بلا خَوْفٍ من تحول مساره إلى الفاقد التربوي.. لكن مع ذلك يَظل السُّؤال الذي كتبته هنا كثيراً قائماً شاخّصاً ينتظر الإجابة. هؤلاء التلاميذ الصغار.. أولاد مَن؟ أقصد أصول مَن؟؟ هَل هُم أصول أُسرهم الفقيرة المُعدمة؟ أم أصول بلدهم الكبير السودان؟ هؤلاء الأطفال بعد تخرجهم – إن شاء الله - هل هُم فقط مِلك أُسرهم أم مِلك البلد الأم؟ هل تجني ثمرهم أُسرهم وحدها، أم وطنهم الأكبر؟ وإذا زاغوا عن الطريق هل يخص الشر أُسرهم أم يعم المُجتمع؟ هنا مَربط الفرس في فشل السِّياسات التّعليميّة في بلدي (المَكْتُول كَمَدْ).. لو كانت الدولة تعتبر كل طفل سُوداني واحداً من أصول الدولة الذي يجب أن نُحافظ عليه ونرعاه حتى تخرجه لكُنّا أمة رائدة مُتقدِّمَة.. لكن لأنّ الطفل مِلك أُسرته.. فمصيره هبة ظروف أُسرته.. إن كانت قادرة عَبَر.. وإن كانت مَغلُولة اليد.. غُلَّ مُستقبله.. لن نتركهم يعودوا إلى الشارع للتسوُّل.. صاروا أمانة في أعناقنا.. altayar.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة