تعقيدات المشهد السياسي واختلاط الحابل بالنابل وهروب قادة الدولة - الانقلابيين - إلى مناطقهم البعيدة عن مدن العاصمة (المترّسة)، وانسداد الأفق وحيرة الوساطة الأممية والإفريقية وضبابية االرؤية لدى الفاعلين السياسيين بجناحي الحرية والتغيير، كلها عوامل تدعونا للتأمل وإلقاء نظرة على السودان من خارج الصندوق، فعندما تحتدم المعركة تكون الكاميرا الأكثر صدقاً هي تلك الحائمة على متن الطائرة الدرون، فوق أسطح أعلى المباني، فهي الكاميرا الوحيدة القادرة على تصوير المشهد من كل الزوايا، خاصة تلك الزاوية غير المرئية للمشاهد الملتصق التصاقاً مباشراً بالحدث، ومع وضعنا في الاعتبار لأهمية رأي المحللين السياسيين بالداخل – وهنا بالتأكيد لا أقصد (الاستراتيجيين) – لكن الناظر للوضع من خارج البلاد له رؤية مختلفة، وفكرة مفيدة، لأولئك الخائضين في وحل أمطار الخريف بالداخل، المواجهين لوابل رصاص العسكر بصدرهم العاري، فالصورة تكون مكبرة بدرجات عالية من (الميغابكسل) لمن هو ملقٍ بعدسة كاميرته من الطائرة الدرون المناطحة للسحاب، ومن أهم الجوانب اللاعبة دوراً رئيسياً في أزمتنا السياسية هي علاقتنا بجيراننا الاستراتيجيين، وهم تحديداً دول بعينها، هذه الدول يجييء ترتيبها حسب استراتيجية دور كل منها، وهي كالتالي: جنوب السودان - إثيوبيا - تشاد - إرتريا، لم أقل مصر، لأنه ثبت جلياً أن المارد الإثيوبي قد سحب البساط من تحت أرجلها ولعب دور ملك الغابة بامتياز. لماذا الدور الإثيوبي هو الأهم والأكبر؟، هذا السؤال خير من يجيب عليه هم السودانيون بالمهجر والمغترب، فعلى الرغم من اجتهاد الجارة مصر في سلب إرادة السودانيين ثقافياً وإعلامياً وتعدياً إقتصادياً، إلّا أن الحميمية بين السوداني والأثيوبي بالدياسبورا هي الأقوى من تلك الوشيجة المصطنعة والمجبورة مع (الشقيق) المصري، فانسيابية التعاطي الاجتماعي والثقافي بين القادم من أديس والآتي من الخرطوم ليست بحاجة لتُرجمان، لأن السودانيين يلهجون بالأمهرية بتجويد يفوق تجويدهم للغة مستعمرهم، الذي أسس المعاهد والجامعات، أما تشاد فيكفي أن التوب والعطر النسائي واللغة والعصيدة، مشتركات يصعب تجاهلها رغم امتعاض بعضنا من الغرب الافريقي، وبمناسبة التوب النسائي (السوداني)، ففي حقيقة الأمر أن هذا التوب في أصله قادم من الشمال والغرب الافريقي، المغرب وموريتانيا وتشاد، وفي البلاد العربية تجدنا دائماً مجتمعين بمطعم إثيوبي أو أرتري أو سوداني، سواء كنا من القرن الأفريقي أو من الوسط والشمال والغرب الأفريقي، هذه الوشائج فرضت نفسها بقوة خارج الصندوق، فهي ليست ضائعة ولا تائهة كما هو الحال داخله، حيث الاستلاب الحضاري والثقافي الكامل من اللغات والثقافات الشرق أوسطية، هذه الفسيفساء الاجتماعية والثقافية المعقدة انعكست بصورة مؤثرة على الوضع السياسي بالداخل، فلو استطعنا إدارة ملف العلاقات السودانية والجنوب سودانية والاثيوبية والتشادية والارترية باحترافية بعيداً عن العاطفة غير المرشّدة، لهدأ البركان الثائر في الداخل ولانصلح الحال. حينما تلقي بنظرك من خارج إطار الصندوق ترى بعينك المجردة جوهر الأزمة، المتمثلة في مسألة الحدود، حكومة الإنقلاب تتحدث عن الحدود الشرقية (الفشقة)، وعن التسلل الغرب إفريقي بالحدود الغربية (دارفور)، وتثير الغبار الكثيف حول زيارة وفد حزبي لكاودا عبر الحدود الجنوبية، لكن لا أحد يقول (بغم) فيما يخص حلايب وشلاتين المحتلتين من قبل مصر، ولا يجرؤ إنقلابي على التحدث عن إغراق الحضارة النوبية في حلفا، جريمة العصر التي لا تغتفر، التي ارتكبها العسكري عبود بحق أرض الجدود، بينما الراحل عثمان الشفيع يغني، وطن الجدود نفديك وبالأرواح نجود، كيف يستقيم هذا عقلاً؟. إنّ نجاح دولتنا المستقبلية لا علاقة له البتة بالانحياز العاطفي لأحد الجيران، سواء كان هذا الجار إثيوبي أو مصري أو تشادي أو جنوب سوداني أو أرتري، نجاحنا يكمن في تغليب كفّة مصلحتنا الوطنية، وأن لا ننجر وراء غيبوبة العاطفة الهوجاء غير المرشّدة، لأن الوطن يكون أقوى باستثماره لعلاقاته البينية بذكاء الأذكياء لا بحماقة الحمقى، والشعوب لا تنسجم إلّا مع تراثها، لذلك تجد الفرد السوداني متنازع بين ميوله الإفريقية وسيف آلة الإعلام العربية، فعندما يدخل شابان أحدهما مصري والآخر سوداني باحات الليالي بعواصم الغرب والشرق، تجد السوداني (الغرباوي والشرقاوي والشمالي والجنوبي) منحرفاً باتجاه باب النادي الافريقي، أما المصري فهواه شرقي، وهو العاشق الفطري لغناء كوكب الشرق الست أم كلثوم و(عب) حليم حافظ. هذه هي حقيقتنا عندما ننظر إليها من خارج الصندوق، فهل نتقبلها أم نرفضها؟!!.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة