*الأديب يوسف إدريس اشتهر بالقصة القصيرة.. *واشتهر كذلك بأن غالب قصصه هذه مستمدة من تجارب حياته الواقعية.. *وكان سيشتهر أكثر لو نجح في كتابة أقصر قصة في حياته.. *أو عن حياته هذه؛ في أشد لحظات تجاربها واقعيةً.....وختاماً.. *لحظة الموت التي أراد توثيقها؛ أدباً...وإبداعاً...وقصةً.. *ففي أواخر أيامه - بالمشفى- أصر على أن يكون بجانبه قلمه...وأوراقه.. *أراد أن يخوض تجربة ما سبقه بها أحد من العالمين.. *لا من الأدباء...ولا الفلاسفة...ولا المجانين...ولا الروائيين.. *وعجز الأطباء والأهل والأصحاب في إثنائه عن فكرته المجنونة هذه.. *ولكما أحس بدنو الموت دنا من ورقه ليكتب فإذا هو...ليس هو.. *أي ما ظنها النهاية لم تكن سوى بداية علة جديدة.. *فقد تكالبت عليه علل النهايات دون أن يلوح في الأفق ما يستحق شرف البدايات.. *فالموت وحده هو الذي نوى الكتابة عنه...ولا شيء غيره.. *فما أكثر ما كتب عن لحظات الميلاد...والأمراض...والحب...والخيانة.. *فقط لحظة الموت- عن تجربة- هي التي لم يكتب عنها.. *ولم يكتب عنها حرفاً حين جاءت - أخيراً- بعد طول انتظار.. *حين جاءت...وذهبت بروحه...وتركت بجوار جسده قلمه وأوراقه وأمنيته.. *فقد كانت تجربة قصيرة...أكثر واقعيةً من أن توثق قصةً قصيرة.. *فالموت لا يعبأ بمحاولة توثيق لحظته...ولا يبالي.. *والبارحة نفسي وجدت نفسها في موقف مشابه لموقف إدريس...مع الفارق.. *ليس من حيث محاولة توثيق لحظات موتٍ شخصي.. *وإنما محاولة توثيق لحظات موت وطن...دولة...أمة...وآمال وأحلام وطموحات.. *وهي أشد قسوة- وألماً - من محاولة يوسف إدريس.. *فكل شيء يتهاوى تحت أنظارنا...ونحن نكتفي بالنظر إلى النهايات.. *وكل يوم نوثق للحظات موت جزء من الجزئيات.. *وبقي الكل الذي نهايته تعني نهايةً مثل تلك التي تُكتب في خواتيم الأفلام.. *فما من يوم تشرق علينا فيه شمسه إلا ونُفاجأ بفقد شيء.. *وشروق شمس يوم الأمس شهدت محاولة توثيق غروب شمس عملتنا.. *والمحاولة كانت من تلقاء خبير اقتصادي...إنقاذي.. *وهو عبد الرحيم حمدي الذي بشرنا باقتراب الموت الدولاري من جنيهنا العليل.. *أو نعى إلينا جنيهاً؛ حيث (50) منه سيعادل دولاراً واحداً فقط.. *وهو الموت الذي لا موت بعده إلا أن يكون مثل الذي غشي إدريس.. *الموت الذي يغشى كل يوم عزيزاً وطنياً منا...ونحن لا نبالي.. *ونشهد كل يوم مفردة النهاية في خاتمة فيلم كل شيء.....ولا نبالي.. *ونحاول كل يوم توثيق لحظة مقدمه...وهو لا يبالي.. *وأعني نحن الذين نكتب قصص التجارب الواقعية.....لا حكومتنا.. *فهي مثل الموت.....لا تبالي !
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة