حينما أعلن "ترمب" تقديم نفسه ليكون مرشح الحزب الجمهوري في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، وقف الحزب واقطابه بل و"المؤسسية" the Establishmentفي واشنطن بشدة ضده وفعلوا كل ما هو ممكن لتفادي أن يكون مرشح الحزب، غير أنه سحق منافسيه واخرس معارضيه وفاز بترشيح الحزب رغم أنف الكثيرين وبدعمٍ غير مسبوق. في الانتخابات الرئاسية، فاز "ترمب" وكان ذلك مفاجأة للكثيرين حتى "ترمب" نفسه. تعدت أسباب من دعموا "ترمب" وبلغت العشرات إلا أن الكثير منها كان بسبب أن الأمريكيين محبطون تجاه الأوضاع السائدة في بلادهم وأنهم رأوا أو توهموا أن في طرح "ترمب" غير التقليدي وغير المألوف انقلاباً عليها وفكاكاً منها. فكرت بنفس الطريقة وفعلت نفس الشيء الفئات التي ساندت "بيرني ساندرز" في الحزب الديمقراطي والذي كان طرحه وبرنامجه، من حيث "ثوريته" وخروجه عن المألوف، أقرب إلى طرح "ترمب" منه إلى طرح منافسته على الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي "هيلاري كلينتون". فاز "ترمب" وخسرت "كلينتون" رغم تفوقها عليه في الحصول على أصوات الناخبين المباشرة Popular Vote مما يكشف واحداً من عيوب كثيرة لا تزال تعاني منها الديمقراطية الغربية، في الولايات المتحدة وغيرها، ويبين حاجتها الماسة والعاجلة لتعديلات وإصلاحات جذرية حتى تواكب عصر المعلوماتية والطفرات التقنية وما وفرته من وسائل تواصل اجتماعي ووسائط نشاط حر سريع يتجاوز حدود الزمان والمكان، حتى تتلاءم مع التغير الكبير في طريقة تفكير الناس الذين يتزايد إحساسهم بأنه لم تعد هناك قدسية ولا سطوية ولا حاكمية إلا للشعب، حتى تلبي احتياجاتهم وطموحاتهم المادية وغير المادية التي غدوا وبصورة متزايدة يرون أنها حق وليست منة من أحد والتي شملوا في نطاقها اهتمامات وقضايا جديدة كالبيئة، التطرف، العنف وحقوق المثليين، والتي صار تعاطيهم معها يتجاوز حدود المكان ويعبر فوق الكيانات والوحدات السياسية والجغرافية. بعد تنصيب "ترمب" بيوم واحد وفي 21 يناير 2017 أتت "مسيرة النساء" والتي هي برأي حدث كبير يستحق من الاهتمام ويستدعي من التحليل والتفكير والتفسير أكثر مما أولي إليه. على الرغم من أن توقيت المسيرة وتفسير البعض لها، والذي لا يخلو من بعض "الاستغلالية" والانتهازية" و"الغرض"، أظهرها وكأنها مجرد رد على فوز "ترمب" ورفضٍ لأجندته، فإنها أكبر من ذلك بكثير. إن اختزالها في جعل "ترمب" محورها تبسيط وتسطيح مخلٌّ لها بل أنني استغرب كيف فات ليس فقط على "ترمب" الذي لا يزال يفتقر للحنكة والدهاء السياسيين بل على مستشاريه "الأفذاذ" بحقٍ أن يروا فيها بعض ما نادوا به واوصلهم للسلطة من رفض لما هو تقليدي ومألوف وتطلع لبعض ما بشَّروا به فجمعهم بذلك مع الكثير من المشاركين في المسيرة في الهدف وإن لم يجمعهم بهم في الصف. أستغرب لماذا التقط "الترمبيون" الطُعم وسقطوا في فخ أن يروا أن المسيرة تصويتاً على عهد "ترمب" وبداية لجهود إفشاله فتعاملوا معها بانفعالية "ترمبية" وتناولوها بالصراخ والشتم وإسفاف الدخول في جدل عقيم: من كانت مسيرة تنصيبه أكبر "أوباما" أم "ترمب" وهل كانت حشود تنصيب "ترمب" أكبر أم "مسيرة النساء". كان الأجدر بـ “ترمب" ومستشاريه أن يتريثوا وأن يغوصوا إلى أعماق ما حدث وأن يتحروا فيه إيجابية لا يخلو منها وأن يوظفوا ما حدث قدر المستطاع لخدمة أجندتهم التي ليست كلها سلبية حتى في نظر معارضيهم. ومن يعرف الشعب الأمريكي يعرف أن ما يجمع الأمريكيين "الأقحاح" تحديداً البيض أكثر مما يفرقهم خاصة عندما يجد الجد وتصل الأمور "اللحم الحي" وتتصل بمصالحهم الضيقة. كان بإمكان "ترمب" وفريقه، ولو على سبيل الخبث والدهاء، أن يصبوا الماء البارد على "المسيرة"، أن يجهضوها ويهيضوا تلاحمها من خلال الاعتراف بأنها حق مشروع وتبني أجندة بعض المشاركين فيها، ومن خلال اتخاذ قرارات تطمئن بعض الفئات المشاركة وتخرجها من التلاحم او تقلل حماسها له، ولعلهم بعد أن تزول الصدمة وتنحسر موجة الغضب يفعلون. عودة إلى المسيرة ذاتها، فعلى الرغم من تعدد أجندة من شاركوا فيها وتنوعها ما بين حقوق الأقليات العرقية والعقائدية، حقوق المرأة والمساواة في الأجر، الإجهاض، قضايا المثليين، البيئة، التأمين الصحي والضمانات الاجتماعية، الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والهجرة وغير ذلك فإنها وبنظرة شمولية “macro”لها حدث كبير غير مسبوق من حيث عدد من شارك فيها من المواطنين الأمريكيين والجماهير في خارج الولايات المتحدة الأمريكية، الوسائل التي اتبعت للحشد والاعداد لذلك ومنهاجيتها من حيث إثارة القضايا التي تهم المشاركين فيها وتنوعها. لقد أكدت المسيرة مجدداً أن الجماهير لم تعد بحاجة إلى قيادات "ملهمة" أو كيانات كالأحزاب السياسية أو الطوائف والبيوتات أو غيرها، لتنظمها أو تعطيها أوامر وإشارة الانطلاق أو لتحدد قبل ذلك أجندتها وأهداف تحركها وسبل تحقيقها. إن الشعوب تأخذ الأمور الآن في يدها وتجبر من يأنس في نفسه الكفاءة والجرأة لقيادتها لأن يلهث خلفها، يتكيف مع تطلعاتها وطموحها وينصاع لإرادتها. إن مسيرة النساء وغيرها من أحداث مماثلة سبقتها وستعقبها لا محالة تؤرخ لأن نهاية عهود الصفوة والنخب ومدعي الحق الإلهي وورثة السطوة والسلطان قد بدأت وأن مسيرة سلطة الشعوب قد انطلقت وسوف تجرف كل من يقف في طريقها. لم يعد في عالم اليوم والغد مكان للدكتاتوريات والسلطات الشمولية ومن لم تتخلص منها شعوبها فسوف يلقي بها التاريخ في مزبلته كما فعل بالعبودية، الاقطاع، استعمار الشعوب، النازية والفاشية وغيرها من مظاهر الانحطاط التي اعترت مسيرة البشرية. لم تعد مجالات التعاطي مع السياسة الدهاليز والأقبية وصالونات الصفوة بل الشارع والوسائط الإسفيرية والمساحات الشعبية الفعلية والافتراضية. في سياق مغاير، أكدت المسيرة أن التقدم التكنلوجي لم يعد يخدم فقط الآلة العسكرية أو وسائل التجسس والتسلط والإرهاب والقمع فهو يخدم بدرجة أكبر كشف الممارسات الخاطئة والتجاوزات البشعة والسلوكيات غير المسؤولة، كما يخدم انتشار الوعي وكسر حاجز الرهبة والخوف ويزيد قدرة الجماهير على التحاور والتشاور والتنسيق والتحرك والعمل، ولعل في الانتفاضات البرتقالية وفي الربيع العربي أمثلة على ذلك. من ناحية أخرى أثبتت المسيرة أن العولمة لم تعد قاصرة على التقنيات والاقتصاد وبعض مجالات السياسة فقد تخطت ذلك لتشمل تنامي احساس الناس ببعضهم البعض وتقليص حواجز المسافة واختلافات الهويات أياً كانت بينهم وصار الناس اميل لدعم بعضهم البعض خاصة في القضايا التي يرون أنها تمس البشر في مجموعهم كحقوق الإنسان ورفاهيته، العدالة، البيئة والسلام. مثلما صار انتقال الانباء في سرعة البرق صار الانفعال بها والتفاعل معها في ازدياد وما أظن أن هذا التوجه سيعرف سوى المزيد من التكريس ويحدث المزيد من النتائج. كما هو الحال بالنسبة للعصيان في السودان، يتساءل الكثيرون: هل المسيرة النسائيةMovement or Moment وهل هي فعل أم انفعال؟ يتبعون ذلك بسؤال ماذا بعد وماذا سيعقب مسيرة النساء العالمية والمليونية؟ يرى بعض المحللين أن تحركاتٍ لا تصل آخر الطريق وتحدث التغيير المطلوب تضر بالقضية أكثر مما تفيدها إذ أنها تستنفد طاقة كان يجب أن تدخر وتوفر لمعركة فاصلة. يرى البعض أن مثل التحركات يخدم من تثور الجماهير عليهم وتتحرك ضدهم إذ أنها تكتسب صفة تنفيسية therapeutic وتفرغ الكثير من طاقة وشحنات الغضب والفوران حتى أن بعض الأنظمة الشمولية تهندس مثل هذه المسيرات وغيرها من مظاهر الاحتجاج والرفض وتنعم بعدها، ولو إلى حين، بقدر من الهدوء والاستمرارية. قد يصدق هذا في بعض نواحيه على مسيرة النساء إذ لن يسهل أن تتمكن أية جهة في وقت قريب وفي ظروف عادية من حشد هذا الكم من البشر وبذات درجة الحماس. غير أن هذا لا ينفي ما سبق أن ألمحت إليه من أن صفحة في تاريخ البشرية توشك أن تنطوي وأن صفحة جديدة تبدأ سيكتب فيها بمداد من دم ونور أن الشعوب هي السيدة وهي الحاكمة، الآمرة والناهية. ستشهد تلك الصفحة أن النساء، الشباب، الأطفال، المسحوقين، المغلوبين والمعاقين وليس الديناصورات أو الكهنة أو الأشراف والنبلاء أو المتكلسين المتأكسدين هم من سيعيدون صياغة هذا العالم وكتابة فصول تاريخه القادمة. قبل أن أختم هناك أمران جديران بالملاحظة: أولهما إن المسيرات انتظمت في عواصم ومدن الدول التي لها تقاليد ديمقراطية وكادت أن تنعدم في دول القمع والكبت والإرهاب مع أن شعوب تلك الدول أحوج للتغيير ومع أن "ترمب" خصًّ بعضها بالشتم والتحقير والتوعد بالحظر وشرٍ مستطير. السبب هو أن شعوب دول التسلط تخشى ما قد تواجه به من عنف دموي وتشريد وتقتيل. محصلة ذلك أنه وكما لكل فعل ردة فعل معاكسة في الاتجاه قد لا تكون مساويه له في المقدار في عالم السياسة، وبما أن الناس على دين ملوكهم وأن الكبت يولد الانفجار، فإن سعي شعوب دول القهر للتغيير سيكون عنيفاً ودموياً، وأنظر حولك. الأمر الثاني هو أن الحكومات والسلطات في الدول التي انتظمت فيها المسيرات رحبت صدراً بتلك المسيرات ووفرت للمشاركين فها الحماية التامة إذ أنهم كانوا يمارسون حقاً كفلته دساتير وأعراف وممارسات بلادهم. من جانبهم حرص المشاركون على أن تكون مسيراتهم سلمية لا تلحق أذى بمن يختلف في الرأي أو ضرراً بمقدرات وممتلكات هي في الأصل ملك للشعوب. إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ، حاكماً كان أو محكوماً. كتب العالم والمثقف والزعيم السياسي "أنطونيو غرامشي" حينما كان يرزح في غياهب سجون "موسوليني" "أن العالم القديم يموت والعالم الجديد يتأخر بالظهور .... وفي هذه الفترة بين حكمين تبرز ظواهر مرضية." نعم قد يتأخر ظهور العالم الجديد وقد تبرز ظواهر مرضية غير أن مسيرة 21 يناير دقت واحداً من آخر المسامير في نعش العالم القديم وقضت على بعض الظواهر المرضية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة