(سألني ظان بالسوء في الشيوعية إن كنا مسلمين. فقلت له إننا لم نكن نبلغ بعض ما بلغنا من حسن ظن كثير من الناس بنا لو لم نجد الإلهام من ديننا. فتعففنا، وصبر كوادرنا على الأذى، ونقص الثمرات، ومغالبة الأمل جهاداً ليرث المستضعفون الأرض أصله في الصوفية السودانية. ولم يكن بوسعنا هذا الجلد بثقافة ماركسية محضة حظنا منه عموميات حبلى بالمستقبل بينما استبطنا ثقافة الصوفية الأقرب إلينا، واستصحبناها نحو الافاق المعاصرة التي فتحت الماركسية لنا أبوابها.
لقيني قبل أيام رجل من غمار الناس وقدم نفسه إليّ كمعجب قديم بالشيوعيين. وسألته لماذا. قال إن ابنه سأله نفس السؤال ذات يوم. فكان رده:"لأنهم بخافو الله". وكدت أشرق بالدمع.
هذه كلمة في رثاء الرفيق السر الناطق الذي توفي في 2001. وهو من ناطقاب نوري من ذرية صالحين. ولست أشك في أن أكثر جهاده في صفوفنا نحو الاشتراكية مما استلهمه من هذا البيت التربوي العتيق)
راح في حق الله رفيقنا السر الناطق. كان السر من الجيل الشيوعي الثاني الذي أصبحت فيه الفكرة الماركسية فطرة ثانية. تآخت في وجدانه معاني الشعب والتجرد والنزاهة وقوله الحق (وهي المعاني التي انطمست بالزمان) بروافد من طلاقة البدو ويقين الماركسية. كان السر من رهبان الشيوعية إخلاصاً ومن فرسان الحركة النقابية قبيلا. فكان فيه إرث صوفي. وكثيراً ما فخر علينا بأن أحد جدوده المشائخ مذكور في طبقات ود ضيف الله. وكان هذا حقاً.
عرفت السر عن كثب في سجن شالا بالفاشر في 1972-1973. وكان هناك نفراً صالحاً فينا: مكي عبد القادر، وعبد المجيد شكاك، ومحمد السنجك، وصديق يوسف، ومحجوب شريف، والسر شبو، والخاتم عدلان، وصدقي كبلو، وفاروق كدوده، وصالح البحر، وكمبلاوي، والسر النجيب، وآخرون. منهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر. فرحمة الله على من بارحوا ولتزدد سنين من بقوا.
وكنا لعهدنا في المعتقل نصدر صحفاً ناطقة. فكنا نصدر في معتقل زالنجي، الذي أخذونا إليه بعد شالا، نصدر صحيفة اسمها (أوزوم) الذي هو من أودية الجهة. وكان نجمها بلا منازع صديقنا ياسر الطيب، المعلم النقابي، ذو الصوت الشجي الذي ما مللنا ابداً اغنيته "الله الليموني" التي فشت في البلاد طولاً وعرضاً ونفذت إلى السجن بغير استئذان.
وأصدرنا في الفاشر مجلة أريبو (وهو واد آخر بدارفور). وكانت عبارة عن برنامج منوعات تشمل كلمة التحرير، وباباً للشعر، والمقاطع التمثيلية والغنائية. وتقع الصفحات المجلة بين غلافين. الغلاف الامامي لصورة الغلاف. أما الخلفي فهو مسك الختام. وكان محرر هذه الصحيفة الاخيرة في شالا هو زميلنا الراحل السر الناطق. وقد اخترع السر لنفسه شخصية (نمطية) فكاهية اسمها الشيخ الصمودي. ولا يخفي على القارئ مغزى الاسم في ملابسات اعتقال "نفيه" طال. وإنني لأرشح لزملائي في المسرح إدراج فقرة الشيخ الصمودي ضمن ملف المسرح السوداني ليقفوا علي السر الناطق كواحد منهم حين يظنه الظان بعيداً. وسيقف هؤلاء الزملاء أيضاً على المعينات وفنيات السر المسرحية الناضجة. وربما أعانهم في مسعي توثيق الشيخ الصمودي، جماعة من محرري وقراء أريبو ممن بقي ممن ذكرنا آنفاً.
أذكر أنه متي ما جاءت فقرة الشيخ الصمودي، وكانت مسك الختام المنتظر، تصاعدت الأصوات من خلف المسرح، بأهزوجة درويشية النغم على إيقاع الطبل يخرج من بين ثناياها الشيخ الصمودي راقصاً بعمته الوقورة وفرجيته التي تؤطر كرشه المصطنع المسنود إلى حزام، ولحيته البيضاء. ثم يهدأ دوي الطبل، ويتخافت ليعلو صوت يقرأ نصاً لا أذكره ولكنه من نوع الكليشيهات في خطابات المشوق إلى المشوق من مثل "إنني أرسل سلاماً يفوق المسك والعنبر أو سلاماً تحمله الطائرات فلا تسعه الخ" وودت لو أسعفني أحد الزملاء بتمام النص. واستمزج مخرج أريبو (هل هو الخاتم أم محجوب شريف أم هما معاً؟) هذه المقدمة من أصل خطاب وصل إلى أحد المعتقلين من قريبه أو قريبة له تصغره سناً. وقد قرأ المعتقلون الخطاب فضحكوا من فرط براءته وعذوبته في ذلك المكان البلقع الموحش. ولأن نص الخطاب وقع موقعاً حسناً في المعتقل، رأي مخرج أريبو أن يستثمره لتزيين درامية مشهد دخول الشيخ الصمودي خشبة المسرح.
بعد رقصته العجوز يجلس الشيخ الصمودي ويقرأ نصاً طريفاً من تأليفه يعلق فيه علي حياة المعتقل أو أدب الحزب ونضاله أو ما شاء. ويرتب الصمودي كلمته على نموذج نصوص الفقه بعنعنته، وروايته الضعيف منها والثابت، وبأقوال الفقهاء واختلافهم. ولا اذكر من تلك النصوص إلا واحدة ضج له قراء أريبو أو مشاهدوها ذات خميس. فقد أسند الصمودي بعض حديثه إلى ما أسماه "اوراق تارا". وكانت هذه إشارة لبيبة استثمر فيه الشيخ الصمودي حادثة وقعت في معتقل السرايا بسجن كوبر في أيام الاعتقال الأولى في أغسطس 1971م.
فتارا المقصود هنا هو زاهد أخر من زهاد الحزب هو المرحوم مبارك بشري الذي مات وحيداً في آخر السبعينيات وهو يتخفى من منزل إلى آخر في حلقة العمل السري. وكان مبارك ماهراً في (تربيط) أواصر العمل السري و(تركيبه) ببروده وهدوئه. أما أوراقه التي اتخذها الشيخ الصمودي مرجعاً فهي قوائم كان أعدها هو على أول عهدنا بالاعتقال صنف فيها المعتقلين إلى الشيوعيين والديمقراطيين وغير ذلك. ومن سوء بخت تارا والمعتقلين وقوع تلك القوائم في يد إدارة السجن والأمن نتيجة تفتيش كشة مباغت، ولك أن تتصور ما أثارته أوراق تارا من غضب وغيظ عليه وعلى الحزب بين المعتقلين الذين لم يرغبوا في كشف هويتهم السياسية وتحقيقات الأمن معهم لم تفرغ بعد. وما انفجار مشاهدي الشيخ الصمودي بالضحك لدي استرجاعه ذكري الاوراق الملعونة، بعد نحو عامين، الا محاوله للتخلص بالضحك من أمر مقيت وذكرى مؤرقة. من مثل هذا الاسترجاع تنشأ الفكاهة العالية الشماء.
لم اذكر طوال ثنائي على طلاقة السر الناطق أنه كان تاتاء. ولم يكن السر يعثر بهذا النقص في النطق حين خرج يؤسس البيت النقابي للشعب أو على المسرح. كان السر على المسرح بالذات خلو من هذه التأتاة بالمرة. وكأن الفن غسل تعويقه اللساني ليمتع جماعة رمتها حكومة ظالمة في غيهب المعتقل.
اللهم أنزل السر منزلاً حسناً عندك. ودع طيور الجنة ترفرف على سيمائه النقي، وباطنه المحكم، وعطر حياته التي عاش فيها لأجل المستضعفين ومات من أجلهم. طبت حياً وميتاً يا صديقي السر الناطق.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة